عجيب أمر هذه الدنيا بما تحوي من مفارقات ومتناقضات ومتآلفات, ومن سكنات وتقلبُّات ، ومن عداوات وصداقات، ومن تصدُّعات ومُحْكَمَات ، والمرءُ بينها موزع بينها في الهموم ,والإحزان, والأفراح, والمسرات ، ومن رحم المفارقات _ في أغلب الأحوال ـ تتولَّد السكينة والطمأنينة ، وما عملية المخاض سوى إيذان بميلادِ جديد .
أرأيتم تلك الشجرة الوارفة الظلال, وقد أكل الدهر عليها وشرب ، كيف تكون أغصانها مهوى الطيور, فتناجي وتغرِّد بلحنها الجميل ,وترفرف بأجنحتها ,تعبيرا عن فرحها ، كأنني أخالها ترتدي عباءات السعادة وسط صالات الأفراح ، وتبرح مكانها إلى شجرة أخرى, حينما نقذفها بالحجارة,لأننا نأبى الألفة بين الصغير والكبير ، وربما يدفعنا الحسد والكراهية إلى قتل تلك البراءة, ووأدها في مهدها من خلال قوة السلاح , لندفن طقوس الأفراح بين المفارقات وندفع بها إلى مهاوى الردى.
أرأيتم ذلك البحر الكبير والمحيط العظيم, كيف تتلاطم أمواجه ,ويمتد ماؤه حينا وينكفئ حينا ، وهكذا خُلِق منذ القدم ، وقد رُكِبَه خلقٌ صغير, فجاب أعماقه, وطوى مسافاته ,ومد جسورا من التواصل مع أمم الأرض في شتى المعمورة ، فسبحان الله العظيم, كيف يسخِّر كائنٌ صغيرٌ عقلُه وفكرُه ,ليذلِّل المخلوق الكبير, فيكون مطواعا منقادا لأهوائه ، بل ويغوص في أعماقه إن كان غواصا, ليجد في حضنه الدفء الذي يجيره من قسوة الحياة وظلمها ، فيستخرج من باطن البحر الكبير كنوزا ونفائس ما خطرت له حينما كان على شاطئه يجهل حقيقته ، ومع هذا التناغم بين الصغير والكبير, والانسجام كما لو كانا توأمين, يقف الحاقدون وذوو الأنفس المريضة بالمرصاد ، فينسجوا من وحي الخيال ما يفرِّقون به بين المرء وزوجه ، فيغرق الصغير في جوف البحر ، ليقف أصحاب العاهات يتشدَّقون بمعسول الكلام ، اليوم نوم ، وغدا لنا أمر مع فتنة أخرى والى اللقاء .
أرأيتم السحاب الثقال كيف تتولد من رحم المحيطات والبحار ! وتسوقها الرياح إلى من يشاء القدير المتعال ،وكلما ثقل سير السحاب, استبشر الناس خيرا , فمن ضروعها ينهمر الخير وحبات المطر, لتعانق الأرض فيكون فصل الربيع , ولكننا نحن البشر, نستعجل القدر ,فتستمطر المياه من سحابات البشر , فهل يستوي صنع البشر مع صنع خالق البشر !
نعم لقد جهل الكثيرون حقيقة الألفة بين الصغير والكبير, وحاولوا أن تظل بين الصغير والصغير, والكبير والكبير , فرأوا عجز التحدي , حينما أدركوا أن حبات المطر من المحيط والبحر, ومن السحب الثقال تنهمر , وبفعل الشمس تتبخَّر , فتسوقها الرياح مداعبة إياها, فهل نحن البشر من عظيم قدرة الله نتعظ ونعتبر ؟
هكذا هي سنة الكون أيها البشر , فدعوا الخلق للخالق , فالسفينة تجري على البحر لا على اليبس , وإذا ما سوَّلت لكم النفوس في الأذى وردم الحقيقة بجهلكم, فستظلون وراء القافلة تغرقون بالحقد والحسد, ولا تجنون من غراسكم سوى الشوك والحنظل , دعوا المتآلفين مهما تباعدت بهم الأوطان, وفرَّقت بهم الأزمان, يلتقون في صعيد واحد, يلتحفون قيم المودة والحب والأخوَّة والتسامح, ويفترشون الأمل الذي يحتضنهم, لينسجوا من الخيوط المتفرِّقة حبالا متينة , ومن المستحيل ممكنا , ومن التباعد تقاربا , ومن المفارقة ألفة , لئلا نظل أسارى لأهوائنا ورغباتنا المزيفة الخادعة المحفوفة بالمخاطر.