كلنا مذنبون .. فهل من توبة
إن العبد لابد له من الوقوع في الذنوب، ولا ينجو منها إلا من عصمه الله سبحانه بمنِّه وكرمه،
كأنبياء الله سبحانه وتعالى، أما سائر بني آدم فالذنب منهم واقع،والإثم منهم حادث؛
لما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ثم جاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم) .
والمراد بهذا أن العبد واقع في الذنب لا محالة، وأن لله تعالى حكمةً في إلقاء الغفلة على قلوب العباد أحيانًا، حتى يقع منهم بعض الذنوب، فإنه لو استمرت لهم اليقظة التي يكونون عليها في حال سماع الذكر،
لما وقع منهم الذنب يقول ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف:
وفي إيقاعهم الذنوب أحيانًا فائدتان عظيمتان:
إحداهما: اعتراف المذنبين بذنوبهم وتقصيرهم في حق مولاهم، وتنكيس رءوس عُجبهم، وهذا أحب إلى الله تعالى من فعل كثير من الطاعات.
وفي الحديث: ((لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك: العجب))،
قال الحسن : لو أن ابن آدم كلما قالَ أصاب، وكلما عمل أحسن، أوشك أن يُجنَّ من العُجب.
وقال بعضهم : ذنب أفتقر به أحب إلي من طاعة أُدلُّ بها.
الفائدة الثانية: حصول المغفرة والعفو من الله تعالى لعبده، فإن الله يحب أن يعفو ويغفر، فلو عصم الخلق فلِمن كان العفو والمغفرة؟!).
علامات التوبة المقبولة
إن من علامات قبول التوبة أربعةَ أشياء:
أحدها : أن يملك لسانه من الفضول والغيبة والنميمة والكذب.
الثاني: ألا يرى في قلبه حسدًا ولا عداوة لأحد.
الثالث : أن يفارق إخوان السوء.
الرابع : أن يكون مستعدًّا للموت نادمًا مستغفرًا لما سلف من ذنوبه، مجتهدًا في طاعة ربه.
ويروى أن رجلا سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به هل له من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود، ثم التفت إليه فرأى عينيه تذرفان،
فقال له: إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة، فإن عليه ملكًا موكلاً به لا يغلق، فاعمل ولا تيأس.
ومن علامات قبول التوبة: أن يظل قلبه خائفًا من الله تعالى، غير آمن لمكره سبحانه وتعالى طرفة عين حتى يسمع قول ملائكة الرحمة:
{ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}.
شروط التوبة المقبولة
يقول ابن القيم في مدارج السالكين:
(شرائط التوبة ثلاثة: الندم، والإقلاع، والاعتذار.
فحقيقة التوبة: هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعاوده في المستقبل.
فأما الندم: فالتوبة لا تتحقق إلا به.
وأما الإقلاع: فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب.
وأما الاعتذار: فالصحيح أنه تمام التوبة والاعتراف بالذنب.
وكمال التوبة: أن يقضي الحقوق.
الخير كلُّه في التوبة
وليعلم العبد أن جِماع الخير ومِلاك الأمر وسببُ السعادة: التوبةُ إلى الله تعالى، قال عزَّ وجل:
{وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
والتوبة النصوحُ يحفَظ الله بها الأعمالَ الصالحة التي فعَلها العبد، ويكفِّر الله تبارك وتعالى بها المعاصيَ التي وقعت،
ويدفعُ الله بها العقوباتِ النّازلةَ والآتيَة،
قال الله تعالى:
{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحياةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}.
قال قتادة رحمه الله: (لم ينفَع قرية كفرت ثمّ آمنت حينَ حضرها العذاب فتُرِكت إلاّ قوم يونس، لمّا فقدوا نبيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم قذَف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبِسوا المسوح، وألهَوا بين كلّ بهيمة وولدها -أي: فرّقوا بينهما-، ثمّ عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلمَّا عرَف الله الصدقَ من قلوبِهم والتّوبة والنّدامةَ على ما مضى
منهم كشفَ الله عنهم العذابَ بَعد أن تدلَّى عليهم).
والتَّوبة بابٌ عظيم تتحقّق بهِ الحسنات الكبيرةُ العظيمة التي يحبُّها الله؛ لأنَّ العبدَ إذا أحدَث لكلّ ذنبٍ يقَع فيه توبةً كثُرت حسناتُه ونقصَت سيّئاتُه،
قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
وعلى العباد أن يتذكَّروا سعَةَ رحمةِ الله وعظيمَ فضلِه وحِلمِه وجودِه وكرمِه، حيثُ قبِل توبةَ التائبين،
وأقال عثرةَ المذنبين،ورحِم ضعفَ هذا الإنسان المسكين، وأثابَه على التّوبة، وفتحَ له أبوابَ الطّهارة والخيرات.
عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((إنَّ الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النّهار، ويبسط يدَه بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل)).
التوبة من أعظم العبادات
والتوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتَّصفَ بها تحقَّق فلاحُه وظهَر في الأمور نجاحُه، قال تعالى:
{فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}.
وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فرحُ الرَّبِّ بها فرحًا شديدًا، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه من أحدِكم سقَط على بعيره وقد أضلَّه في أرض فلاة)).
فاللهم وفقنا للتوبة النصوح، واغفر لنا يا أرحم الراحمين.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل...
*******