تأملات تربوية في سورة مريم
(1)
هذه بداية تأملات تربوية في كتاب الله - تعالى -، ليس فيها من التفسير إلا ما يخدم الفكرة التربوية في القرآن الكريم، أجلّي فيها الأسلوب التربوي، وأشير إليه دون الخوض في المعاني إلا بما يناسب الهدف التربوي نفسه. وقد أشير إلى هدف بلاغيّ أو تعبير لغويّ أو توجيه نحوي يخدم الهدف التربوي الذي أريد تجليته....والله ولي التوفيق.
1- أسلوب التنبيه:
أساليب التنبيه في القرآن الكريم كثيرة كلما مررنا على واحد منها ذكرناه إن شاء الله - تعالى - في موقعه.. وهنا نجد السورة تبدأ مثل كثير من سور القرآن الكريم بالحروف المقطعة، ك. ه. ي. ع. ص. فالأول والرابع والخامس منها ممدودة والثاني والثالث غير ذلك، مما يشد انتباه السامع والقارئ على حد سواء بطريقتين مجتمعتين قبل البدء بقراءة الجمل والمعاني، هما " الحروف المبهمة " و " الأداء الموسيقي "
والمفسرون يوردون تفسير هذه الحروف منسوبة إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره، فالكاف " كريم " والهاء " هادٍ " والياء " قوي، ذو الأيدِ " والعين " عليم " والصاد " صادق الوعد ".... إن البدء بحروف متقطعة ذات جرس موسيقيّ مختلف يجعل المتلقي يرهف السمع، إليها لغرابتها فلا يضيع عليه ما بعدها.... ومن ناحية أخرى نجد المتلقي يتساءل في قرارة نفسه عن معناها وطريقة أدائها ليصل إلى تأويلات عدّة، منها: أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف وأخواتها، فإن استطعت أن تأتي بمثلها فافعل. وإلا ثبت أنها من لدن عليم خبير.
2- التأمل والتدبر:
إن كلمة " ذكر " في قوله - تعالى -" ذكر رحمة ربك عبدَه زكريا " توحي بأمور كثيرة يتفاعل بها المتلقي سامعاً وقارئاً. منها:
- إعمال الفكر، وتقليب المعاني في ذكر الله - تعالى -عبده الصالح زكريا، وسبب تخصيصه بهذا الفضل العظيم حين ذكره
- وأن التذكر ليس ضد النسيان دائماً، فالله - سبحانه وتعالى - منزه عن النقائص، والنسيان نقيصة. " لا يضل ربي ولا ينسى " " وما كان ربك نسيّا " " أحصاه الله ونسوه ". إنما التذكر هنا رفع لمقام زكريا - عليه السلام -، واستجابةٌ لدعوته، وخصُّه بالرحمة.
- وأن ذكر الله - عز وجل - يرفع مقام صاحبه في عليين " فاذكروني أذكرْكم " " ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأً ذكرته في ملأٍ خير من ملئه "...
- وانظر معي إلى هذا الربط الرائع بين النبيين الكريمين، فهما أخوان كريمان يستقيان من نبع واحد، ويستضيئان من مشكاة واحدة، فكلمة " ربك" خطاب لنبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - تدل على أعلى مراتب الإنسان: العبودية لله - تعالى -، فمادام اللهُ ربَّه فهو - عليه الصلاة والسلام - عبدُه. وزكريا - عليه الصلاة والسلام - عبده، فاجتمعا في هذه المكانة العلية. وبما أنهما مثال يُحتذى كانت الدعوة لنا من الله - تعالى -أن نكون من عباده.
3 - إغاثة الملهوف:
فزكريا - عليه السلام - لجأ إلى الله - تعالى -، واتجه إليه في دعائه وسأله من فضله، " إذ نادى ربه نداء خفيّا "، فأجابه الله إذ رحمه ووهبه غلاماً زكياً. وهذه لفتة كريمة تحض على مساعدة الآخرين وتقديم العون لهم إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
4 أدب الخطاب: ويتجلى ذلك في أمور عدّة:
أولها: التحبب: من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وأنت حين تخاطب من تحب يتكرر اسمه على لسانك. فزكريا - عليه السلام - ذكر ربه خمس مرات في جمل قليلة: " رب إني وهن العظم مني " " ولم أكن بدعائك رب شقيا " " واجعله رب رضياً " " قال رب أنى يكون لي غلام.. " " قال رب اجعل لي آية ". وعلى هذا قبل الله - تعالى -ربوبيته لعبده زكريا حين قال - سبحانه -: " إذ نادى ربه نداء خفيّاً ".
ثانيها: النداء الخافت: فالله - تعالى -يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. وحين سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً ينادي الله بصوت عالٍ، قال: له إنك لا تنادي أصمّ بل سميعا بصيراً. وحين سأله رجل: هل ربك قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ نزل قوله - تعالى -: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعانِ.. ". " نداء خفياً ". لأنه معه، " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ".
ثالثها: التذلل إلى الله قبل الطلب: فقد عرض الحال بتسلسل منطقي، وأدب جم، فبدأ بذاته الداخلية " إني وهن العظم مني " ولم يقل وهن عظمي فكان صادقاً فليس كل عظمه واهناً وإلا لم يستطع الحركة، وإنما أراد أن يقول: إنه ضعف وشاخ. وثنّى بجزء منه لكنه الإطار الخارجي منه " واشتعل الرأس شيباً. فلئن كان شعره منه إلا أن بعضه خارج جسمه، أما العظم فمختلط بلحمه وشحمه. ثم التمس تقبل الدعاء وإجابة الرجاء مادحاً ربه: " ولم أكن بدعائك رب شقيّاً " فأنت يا رب سميع الدعاء، ولن تردني خائباً.
رابعها: الحرص عل الدعوة حين خاف على الدعوة إلى الله أن تضعف و لم يجد من حوله من يقوم بأدائها ويحمل عبئها، " وإني خفت الموالي من ورائي " فلا بد من خلف يكمل عمل السلف. وأمرأته عقيم " وكانت امرأتي عاقراً " فليس لي ذرية يتمون ما أمرتني بالقيام به.
خامسها: البوح بالطلب أن يرزقه الله ولداً صالحاً تقر به عينه حين يراه حاملاً أمانة الرسالة وهم الدعوة إلى الله - عز وجل - بين اليهود قساة القلوب. " فهب لي من لدنك وليّاً، وقد لا يكون الولد وليّاً. فالولي الذي يسير على هديك وخطاك، ويكمل ما بنيته، لا الذي يهدم ما تعبت في بنائه وإقامته. فهو لن يكون ولياً ولو كان من لحمك ودمك. وكم من شوكة تخلف وردة! " ما مهمته؟ " يرثني، ويرث من آل يعقوب "... وهنا نجد الدقة في بيان السبب: أن يرثه في كل شيء كان يقوم به، ويرث الصالحين من آل يعقوب في المهمة نفسها.
سادسها: أن يكمل المنة، فيجعله رضياً. وهنا نجد الأسلوب البلاغي الرائع في قوله - تعالى -" رضياً " فالغلام راض بما قسم الله له شاكر لله فضله، والله راض عنه مكمل عليه نعمته. فـ" رضيٌّ " أدت معنى اسمي الفاعل والمفعول معاً، ولن تكون " راضٍ " و" مرضِيٌّ " لتغني إحداهما عن الأخرى!.... وكم يتمنى الناس الذرية دون أن يقوموا بواجبهم في تربية النشء، ويهتمون بجني المال لأولادهم من حل وحرام، وقد كفل الله لهم الرزق، وكفاهم مؤونته ويتناسون أن الله أمرهم بحسن التربية، وسيحاسبهم على ذلك، أحسنوا أو أساءوا؟.
5- الإجابة السريعة: فإن استطعت أخي الحبيب أن تلبي أخاك فلا تتكاسل. إن الله - تعالى -أجاب عبده المطيع بسرعة فلا نجد حرف عطف ولا حرف استفهام، ولا الفعل " قال":... إنما قرأنا مباشرة: " يا زكريا، إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى، لم نجعل له من قبل سمياً ". وتجلت الإجابة السريعة بما يلي:
أولاً: النداء، ما إن نادى ربه حتى سمع نداء ربه: " يا زكريا " فعرف أنه المقصود لا سواه فأصاخ السمع، خافق القلب راغب الخير.
ثانياً: البشرى وهذا أسلوب رائع في طمأنة الفؤاد وإراحة النفس قبل زف البشرى نفسها. ولعل الإنسان يظل مستوفز الأعصاب لا يدري أيسمع بشرى أم إنذاراً حتى يقال له ما يُقال. لكنه حين يسمع كلمة البشرى قبل إلقائها ترتاح نفسه، ويكون أكثر وعياً لتلقّيها. ومما زاد في جمال البشرى أنها جاءت بعد التأكيد " إنا " والفعل المضارع الذي يسمعه، فثبت حصولها.
ثالثاً: تحقيق المطلوب: فهو غلام سيبلغ الحلم وتقر به العينان. وقد نذرت امرأة عمران ما في بطنها محرراً وهي ترغب في الولد، ففوجئت بأنثى، خيبت في البدء أملها في الوفاء بالنذر فـ " قالت رب إني وضعتها أنثى " " وليس الذكر كالأنثى "، لكنها حزمت أمرها ووفت بنذرها. لكنه هنا ذكر يافع. وزاد في تمام الفضل أن الله سماه يحيى من فوق سبع سماوات. ولم يجعل له من قبل سمياً.
6- الضعف البشري: المخلوق ضعيف.. ضعيف مهما علا شأنه، ورسخ إيمانه. ولو كان نبياً إلا من عصمه الله - تعالى -. لكن أخطاء الأنبياء ليست كأخطاء الآخرين، إنما هي هَنات تدل على بشريتهم. لكنهم يظلون مثال الكمال الإنساني ومما يدل على ذلك في قصة سيدنا زكريا ما يلي:
أولاً: أنه ذكر ضعفه وهرمه، وعرف أن زوجته لا تنجب لسببين اثنين أحدهما شيخوختها، وثانيهما عقمها. ومع ذلك فأمله بالله أن يرزقهما ولداً صالحاً كبير... فلما أجاب الله سؤله تعجب من ذلك.
ثانياً: انه حين سأل الله - تعالى -الولد قدّم شيخوخته على عقم زوجته. وكأنه السبب الأول في عدم الإنجاب. فلما تعجب من البشرى نأى بنفسه أن يكون السبب الأول لعدم الإنجاب، فقدم زوجته عليه. وهنا نلحظ الرغبة في الكمال وتفضيل النفس على الآخرين.... ولعله تعجب أن تلد امرأة عقيم بلغت سن الشيخوخة، فنبهه المولى - سبحانه - أنه على كل شيء قدير، فقد خلقه من العدم.
7- تصحيح الخطأ مع التعليل: إذا ترك الإنسان لنفسه فقد يزل ويقع في المحظور، فإدراك العقل محدود، وفهمه قاصر، ولا بد من تصويب الأخطاء كي يبقى الصحيح فقط، فيتمثله القلب والعقل. مع التعليل لدواعٍ عديدة. منها: أن يكون الحكم واضحا بيناً، والدليل ساطعاً فينقطع الشك، وليكون الجواب شافياً. فلما تساءل زكريا - عليه السلام - عن إمكانية حمل زوجته، وبشرى الله لهما بالغلام قيل له: ".. كذلك قال ربك هو علي ّ هين، وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ".
فبين له أن الله - تعالى -خلقه من عدم. وهو - سبحانه - قادر على كل شيء.
8- الاستيثاق من الأمر: وهو أسلوب تربوي ذو فوائد جمة، منها: التأكد، والاطمئنان، والمتابعة. لكن الله هو الذي وعده بالغلام، فهل يطلب منه إثباتاً؟ ! وهو - سبحانه - إن شاء وهب، ويمنع إن شاء. فهل أخطأ زكريا حين سأل ربه العلامة فـ " قال رب اجعل لي آية "؟!
لو كان هذا السؤال من قبيل الشك فهو الكفر بعينه، وهو قلة الأدب ذاتها. لكنه نبي الله فوق الشبهات، وقد أرادها ليعلم وقت حدوثها. هذا من ناحية. ثم لا بد من الاطمئنان فهذه هي الطبيعة البشرية السوية. والدليل على ذلك ما قاله إبراهيم - عليه السلام - لربه: " رب أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي " والقصة معروفة. كما أن قصة عزير تسير على هذا النسق حين قال وهو في طريقه إذ رأى القدس هدمها الآشوريون: " أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟! فأماته الله مئة عام ثم بعثه. قال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم. قال: بل لبثت مئة عام.... "فلما رأى قدرة الله في بديع صنعه قال: " أعلم أن الله على كل شيئ قدير ". ومثله قول مريم: " أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر، ولم أك بغيّا " فهي تتساءل للتأكد والتثبت.
9- الدعوة إلى الله في كل الظروف: فإذا مرض الإنسان أو امتنع أن يقوم بواجبه المعتاد بالطريقة التي اعتادها لأمر طارئ اتخذ ذلك ذريعة للتفلت أو الراحة ومن حقه أن يرتاح فترة ليشحذ همته لكن النفس الطموح للنبي الكريم زكريا أبت أن تبتعد عن طريقها المرسوم. فحين حملت زوجته بيحيى و ما عاد يتكلم ثلاثة أيام كما أعلمه ربه بذلك لم يتوانَ عن دعوته، ولم يتخل عن مهمته، إنما التزم المحراب يصلي ويجتهد في عبادة ربه شاكراً فضله، معترفاً بنعمته عليه. وأوحى لأتباعه بالإشارة أن " سبحوا بكرة وعشيّاً "
10- اختيار زمان الذكر ومكانه: أما المكان فالمحراب لمقابلة المليك العظيم، فينبغي أن يكون أفضل مكان في البيت أو المسجد. والمحراب في العربية (صدر البيت، أو المسجد، وأشرف موضع فيه، ومجلس الملوك الذي ينفردون به عن العامة). وأما الزمان فالذي يدل على قدرة الله - عز وجل - في بديع صنعه، حين يتداخل الليل والنهار في الفجر والمغرب هذا التداخل بين الظلام والضياء، وبين الموت والحياة " وسبّح بالعشي والإبكار ".
11- الاهتمام بالجوهر والبعد عن الحشو: يختصر القرآن المسافات التي لا يغني ذكرها. فلم يحدثنا عن طفولة يحيى - عليه السلام -، إنما فاجأنا باللب والمراد من القصة، فإذا هو فتى ذكي الفؤاد قويّ العزيمة، ذو حكمة وفهم، يحمل رسالة ربه بكل ما أوتي من صبر واجتهاد.
12- بر الوالدين: ولن يرضى الله - تعالى -عن الإنسان ما لم يكن الوالدان راضيين عنه. ولن يستطيع حمل رسالة ربه ما لم يحمل في قلبه حباً لهما وتقديراً ووفاءً. ولهذا شمله الله - تعالى -بالسلام والطمأنينة يوم ولد، ويوم مات وبالسلام يوم القيامة والنجاة من النار في ذلك اليوم المهول. حين تبعث الخلائق، فمنهم شقيّ وسعيد....
يتبع