كيف نتدبر القرآن ؟
التدبر هو الثمرة الحقيقية لتلاوة القرآن الكريم، ومن أهم آداب تلاوة القرآن على الإطلاق
فكيف نتدبر القرآن ؟ والجواب هناك عدة أسباب تعيين على التدبر منها:
1- التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى وعلوه وفضله ولطفه بخلقه، عندما أنزل علينا هذا الكتاب، فإن القرآن عظيم، لأنه كلام الله، والله عز وجل عظيم، ومع ذلك فقد جعل كلامه مدركا لعقول البشر المحدودة، وإلا هو فوق طاقتنا، ولكن جعل كلامه عز وجل مفهوماً: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )[القمر:40] ولولا أنه جعله مُيسراً ما استطعنا تلاوته ولا حفظه ولا فهمه؛ لأنه فوق عقولنا، لكن الله سبحانه وتعالى سهَّله وقرَّبه لنا، وجعله بلغة العرب وهي أكمل لغات العالم. وعلى الإنسان أن يستحضر في قلبه عظمة المتكلم وهو الله سبحانه وتعالى وكان بعض السلف وهو عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه إذا نشر المصحف غُشي عليه، ويقول: [كلام ربي.. كلام ربي..] فتعظيم الكلام تعظيمٌ للمتكلم.
2- قراءة تفسير القرآن، كيف يتدبر وهو لا يعرف المعنى من كلام أهل العلم؟ هل يريد أن يفهمه لوحده؟ هل هو سليم السليقة؟ هل عايش التنزيل؟ كلا. هل هو عالم؟ كثيرٌ من الناس ليس عندهم هذه الشروط مطلقاً. إذاً: كيف يتدبر وهو لا يعرف ما قاله أهل العلم في الآية.. هل يتدبر من تلقاء نفسه؟ كما حصل لبعضهم عندما مرّ بآية (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ )[آل عمران:117] قال: فهمت الصراصير الليل، والصِر: هو البرد. قد يفهم الإنسان أشياء كثيرة خطأ؛ بسبب جهله باللغة، وبأسباب النزول.. ونحو ذلك. إذاً لا يمكن أن يأتي التدبر إلا بعد قراءة التفسير، كقراءة ما جاء عن مجاهد عن ابن عباس ، فإن مجاهد عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، يستوقفه عند كل آيةٍ يسأله عنها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يجب أن يُعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}1, يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن. كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، قال أنس: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا" "رواه أحمد في مسنده". وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين، أخرجه مالك في الموطأ، وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه. فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم"
3- ترك حديث النفس، قال الله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ )[مريم:12] أي: بجدٍ واجتهاد، وأخذه بالجد أن يكون متجرداً عند قراءته، منصرف الهمة إلى القرآن فقط، مفرغاً لذهنه وقلبه من أي شواغل أخرى غير القرآن، وقيل لبعض السلف: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء؟ فقال: أو شيءٌ أحب إليّ من القرآن حتى أحدث به نفسي! وكان بعض السلف إذا قرأ آيةً لم يكن قلبه فيها -أي: سها- أثناء القراءة أعادها ثانيةً، وهذه الصفة هي صفة حضور القلب، وتتولد من استشعار عظمة المتكلم، فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يركز ذهنه فيه، ويفرغ قلبه له، كيف لو جاءته رسالة من ملكٍ عظيم أو رئيسٍ كبير لوجدت قلبه منشغلاً بفحو الرسالة والكلام ويُعيد القراءة ويركز فيها، لأن الرسالة من عظيم، لو جاءته رسالة من الملك، لركزَّ فيها وأعاد النظر، وقرأها عدة مرات، واهتم لها أشد الاهتمام، فكيف وهذه الرسالة من ملك الملوك!! ولا خير في تلاوةٍ لا تدبر فيها، كما ورد عن بعض السلف ، فليتدبر ولكن لو كان يتابع الإمام في القراءة فإنه يتدبر في الآيات التي يقرأها الإمام وإن تعدى الإمام لآياتٍ أخرى تبعه بالتدبر ولا يبقى في تدبر آيةٍ سابقة، والإمام يواصل القراءة في آيةٍ جديدة، لكنه إذا قرأ لنفسه تدبر، وإذا وجد مجالاً للتدبر في آية لم يجاوزها إلى غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بآيةٍ واحدة: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118] هذه الآية جاءت في حديث أبي ذر (أن النبي صلى الله عليه وسلم: قام فينا ليلة بآيةٍ يرددها) أخرجه النسائي وابن ماجة، وقال العراقي سنده صحيح. وقام تميم الداري ليلةً بقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )[الجاثية:21]. وقام سعيد بن جبير ليلةً يردد هذه الآية: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ )[يس:59]. وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر. أي: بعض ما أجد فيها يشغلني عن إتمامها والفراغ منها حتى يطلع الفجر.
4- التخصيص: أي: أن يظن ويعتقد أنه مقصود بالخطاب، وأنه خاصٌ به موجهٌ إليه، ليس إلى غيره. فإذا سمع قصص الأولين والأنبياء علم أنه ليس المقصود هو التسلي بالأحداث والسمر بها، أو الأخذ بروعة القصة وأحداثها دون أن يكون معنياً بما فيها من العبر، وكذلك إذا سمع الوعد والوعيد، يظن نفسه مقصوداً، إذا سمع قصص الأنبياء عرف أن المقصود منها هو تثبيت الفؤاد، لأن الله قال: (مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ )[هود:120] فيتأمل في أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء، وثباتهم في الدين، وكيف نصرهم الله سبحانه وتعالى. هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل الله عز وجل، نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها، وننفذها، وكان مالك بن دينار يقول: "ما زرع القرآن في قلوبكم يأهل القرآن، إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض". وقال قتادة : [لم يجالس أحدٌ هذا القرآن إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان]، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً )[الإسراء:82]. 8- ومن التدبر: أنه إذا مرَّ بآية الرحمة سأل، وإذا مر بآية الوعيد استعاذ، فإذا مرَّ بقول الله عز وجل: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ )[طه:82] أرعى سمعه لها، لأن ما سيأتي بعدها شروط: (لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى )[طه:82]، وإذا قال الله عز وجل: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ )[العصر:1-2]، وإذا سمعت إلا وتفطن لهؤلاء الذين ينجون من الخسار؟ (لَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
6- يتأمل ما في هذا القرآن من الختم والطبع على قلوب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويدعو الله ألا يكون منهم؛ لأن الذين طبع الله على قلوبهم غير موفقين ولا مؤهلين لتدبر القرآن، ويندرج تحت التدبر التخلي عن موانع الفهم التي تمنع الفهم، فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن بأسباب، وحجب من الشيطان؛ فعميت عليهم عجائب القرآن فصاروا لا يفهمون ولا يفقهون منه شيئاً، كأنه بالنسبة لهم طلاسم.
ومن الموانع التي تمنع وتحجب الفهم:
أ- أن يكون التأمل مقصوراً على إخراج الحروف من مخارجها دون التدبر في المعاني، فيكون كل همه في تجويد الحرف، نعم هذا يكون -أحياناً- عندما يجلس إلى شيخٍ يقرأ عليه، لكن لا يكون همه دائماً في إقامة الحروف وينسى المعنى.
ب- التعصب، فإن بعض الناس يقولون: لسنا بأهل للتدبر في القرآن، ذلك للأئمة وكبار العلماء، أما نحن فنقرأ فقط ولا يجوز لنا أن نفهم أو أن نُعمل فكرنا فيه.
ج- الذنوب والإصرار عليها، فإن الإنسان لو كان متصفاً بكبرٍ، أو مبتلىً بهوى، فإن ذلك يسبب ظلمة القلب وصدأه، والمرآة صدأها يمنع الصورة الجلية، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، فكلما كانت المرآة نظيفة كانت المعاني التي تظهر في الصور أوضح. ولذلك فإن الله قال: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ )[ق:8] فإذا لم يكن منيباً لم يكن القرآن له تبصرةً ولا ذكراً. وقال الله عز وجل: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ )[غافر:13] فالذين لا ينيبون وليسوا في مقام الإنابة لا يفهمون القرآن.
المصدر
التدبر هو الثمرة الحقيقية لتلاوة القرآن الكريم، ومن أهم آداب تلاوة القرآن على الإطلاق
فكيف نتدبر القرآن ؟ والجواب هناك عدة أسباب تعيين على التدبر منها:
1- التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى وعلوه وفضله ولطفه بخلقه، عندما أنزل علينا هذا الكتاب، فإن القرآن عظيم، لأنه كلام الله، والله عز وجل عظيم، ومع ذلك فقد جعل كلامه مدركا لعقول البشر المحدودة، وإلا هو فوق طاقتنا، ولكن جعل كلامه عز وجل مفهوماً: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )[القمر:40] ولولا أنه جعله مُيسراً ما استطعنا تلاوته ولا حفظه ولا فهمه؛ لأنه فوق عقولنا، لكن الله سبحانه وتعالى سهَّله وقرَّبه لنا، وجعله بلغة العرب وهي أكمل لغات العالم. وعلى الإنسان أن يستحضر في قلبه عظمة المتكلم وهو الله سبحانه وتعالى وكان بعض السلف وهو عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه إذا نشر المصحف غُشي عليه، ويقول: [كلام ربي.. كلام ربي..] فتعظيم الكلام تعظيمٌ للمتكلم.
2- قراءة تفسير القرآن، كيف يتدبر وهو لا يعرف المعنى من كلام أهل العلم؟ هل يريد أن يفهمه لوحده؟ هل هو سليم السليقة؟ هل عايش التنزيل؟ كلا. هل هو عالم؟ كثيرٌ من الناس ليس عندهم هذه الشروط مطلقاً. إذاً: كيف يتدبر وهو لا يعرف ما قاله أهل العلم في الآية.. هل يتدبر من تلقاء نفسه؟ كما حصل لبعضهم عندما مرّ بآية (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ )[آل عمران:117] قال: فهمت الصراصير الليل، والصِر: هو البرد. قد يفهم الإنسان أشياء كثيرة خطأ؛ بسبب جهله باللغة، وبأسباب النزول.. ونحو ذلك. إذاً لا يمكن أن يأتي التدبر إلا بعد قراءة التفسير، كقراءة ما جاء عن مجاهد عن ابن عباس ، فإن مجاهد عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، يستوقفه عند كل آيةٍ يسأله عنها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يجب أن يُعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}1, يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن. كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، قال أنس: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا" "رواه أحمد في مسنده". وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين، أخرجه مالك في الموطأ، وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه. فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم"
3- ترك حديث النفس، قال الله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ )[مريم:12] أي: بجدٍ واجتهاد، وأخذه بالجد أن يكون متجرداً عند قراءته، منصرف الهمة إلى القرآن فقط، مفرغاً لذهنه وقلبه من أي شواغل أخرى غير القرآن، وقيل لبعض السلف: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء؟ فقال: أو شيءٌ أحب إليّ من القرآن حتى أحدث به نفسي! وكان بعض السلف إذا قرأ آيةً لم يكن قلبه فيها -أي: سها- أثناء القراءة أعادها ثانيةً، وهذه الصفة هي صفة حضور القلب، وتتولد من استشعار عظمة المتكلم، فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يركز ذهنه فيه، ويفرغ قلبه له، كيف لو جاءته رسالة من ملكٍ عظيم أو رئيسٍ كبير لوجدت قلبه منشغلاً بفحو الرسالة والكلام ويُعيد القراءة ويركز فيها، لأن الرسالة من عظيم، لو جاءته رسالة من الملك، لركزَّ فيها وأعاد النظر، وقرأها عدة مرات، واهتم لها أشد الاهتمام، فكيف وهذه الرسالة من ملك الملوك!! ولا خير في تلاوةٍ لا تدبر فيها، كما ورد عن بعض السلف ، فليتدبر ولكن لو كان يتابع الإمام في القراءة فإنه يتدبر في الآيات التي يقرأها الإمام وإن تعدى الإمام لآياتٍ أخرى تبعه بالتدبر ولا يبقى في تدبر آيةٍ سابقة، والإمام يواصل القراءة في آيةٍ جديدة، لكنه إذا قرأ لنفسه تدبر، وإذا وجد مجالاً للتدبر في آية لم يجاوزها إلى غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بآيةٍ واحدة: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118] هذه الآية جاءت في حديث أبي ذر (أن النبي صلى الله عليه وسلم: قام فينا ليلة بآيةٍ يرددها) أخرجه النسائي وابن ماجة، وقال العراقي سنده صحيح. وقام تميم الداري ليلةً بقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )[الجاثية:21]. وقام سعيد بن جبير ليلةً يردد هذه الآية: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ )[يس:59]. وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر. أي: بعض ما أجد فيها يشغلني عن إتمامها والفراغ منها حتى يطلع الفجر.
4- التخصيص: أي: أن يظن ويعتقد أنه مقصود بالخطاب، وأنه خاصٌ به موجهٌ إليه، ليس إلى غيره. فإذا سمع قصص الأولين والأنبياء علم أنه ليس المقصود هو التسلي بالأحداث والسمر بها، أو الأخذ بروعة القصة وأحداثها دون أن يكون معنياً بما فيها من العبر، وكذلك إذا سمع الوعد والوعيد، يظن نفسه مقصوداً، إذا سمع قصص الأنبياء عرف أن المقصود منها هو تثبيت الفؤاد، لأن الله قال: (مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ )[هود:120] فيتأمل في أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء، وثباتهم في الدين، وكيف نصرهم الله سبحانه وتعالى. هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل الله عز وجل، نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها، وننفذها، وكان مالك بن دينار يقول: "ما زرع القرآن في قلوبكم يأهل القرآن، إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض". وقال قتادة : [لم يجالس أحدٌ هذا القرآن إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان]، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً )[الإسراء:82]. 8- ومن التدبر: أنه إذا مرَّ بآية الرحمة سأل، وإذا مر بآية الوعيد استعاذ، فإذا مرَّ بقول الله عز وجل: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ )[طه:82] أرعى سمعه لها، لأن ما سيأتي بعدها شروط: (لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى )[طه:82]، وإذا قال الله عز وجل: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ )[العصر:1-2]، وإذا سمعت إلا وتفطن لهؤلاء الذين ينجون من الخسار؟ (لَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
6- يتأمل ما في هذا القرآن من الختم والطبع على قلوب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويدعو الله ألا يكون منهم؛ لأن الذين طبع الله على قلوبهم غير موفقين ولا مؤهلين لتدبر القرآن، ويندرج تحت التدبر التخلي عن موانع الفهم التي تمنع الفهم، فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن بأسباب، وحجب من الشيطان؛ فعميت عليهم عجائب القرآن فصاروا لا يفهمون ولا يفقهون منه شيئاً، كأنه بالنسبة لهم طلاسم.
ومن الموانع التي تمنع وتحجب الفهم:
أ- أن يكون التأمل مقصوراً على إخراج الحروف من مخارجها دون التدبر في المعاني، فيكون كل همه في تجويد الحرف، نعم هذا يكون -أحياناً- عندما يجلس إلى شيخٍ يقرأ عليه، لكن لا يكون همه دائماً في إقامة الحروف وينسى المعنى.
ب- التعصب، فإن بعض الناس يقولون: لسنا بأهل للتدبر في القرآن، ذلك للأئمة وكبار العلماء، أما نحن فنقرأ فقط ولا يجوز لنا أن نفهم أو أن نُعمل فكرنا فيه.
ج- الذنوب والإصرار عليها، فإن الإنسان لو كان متصفاً بكبرٍ، أو مبتلىً بهوى، فإن ذلك يسبب ظلمة القلب وصدأه، والمرآة صدأها يمنع الصورة الجلية، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، فكلما كانت المرآة نظيفة كانت المعاني التي تظهر في الصور أوضح. ولذلك فإن الله قال: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ )[ق:8] فإذا لم يكن منيباً لم يكن القرآن له تبصرةً ولا ذكراً. وقال الله عز وجل: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ )[غافر:13] فالذين لا ينيبون وليسوا في مقام الإنابة لا يفهمون القرآن.
المصدر