التوبة وظيفة العمر
خرَّج الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر، عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله-عزَّ وجل-يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، وقال الترمذي حديث حسن. دلَّ هذا الحديث على قبول توبة الله -عزَّ وجل- لعبده ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم والتراقي، وقد دلَّ القرآن على مثل ذلك أيضًا، قال الله -عزَّ وجل-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً}[النساء: 17]، وعمل السوء إذا انفرد يدخل فيه جميع السيئات صغيرها وكبيرها، والمراد بالجهالة: الإقدام على السوء وإن علم صاحبه أنه سوء، فإن كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم، وأما التوبة من قريب: فالجمهور على أن المراد: بها التوبة قبل الموت، فالعمر كله قريب، ومن تاب قبل الموت؛ فقد تاب من قريب، ومن مات ولم يتب؛ فقد بَعُدَ كل البعد، كما قيل:
فهم جيرة الأحياء أما قرارهم ... فدان وأما الملتقى فبعيد
فالحي قريب، والميت بعيد من الدنيا على قربه منها، فإن جسمه في الأرض يَبْلَى، وروحه عند الله تُنَعَّم أو تُعَذَّب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا.
ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ}، قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أفضل أوقات التوبة: هو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به؛ حتى يتمكَّن حينئذٍ من العمل الصالح، ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن، وأيضًا فالتوبة في الصحة ورجاء الحياة تشبه الصدقة بالمال في الصحة ورجاء البقاء، والتوبة في المرض عند حضور إمارات الموت يشبه الصدقة بالمال عند الموت، فكأن من لا يتوب إلا في مرضه قد استفرغ صحته وقوته في شهوات نفسه وهواه ولذة دنياه، فإذا أيس من الدنيا والحياة فيها؛ تاب حينئذٍ وترك ما كان عليه، فأين توبة هذا من توبة من يتوب من قريب وهو صحيح قوي قادر على عمل المعاصي فيتركها خوفًا من الله-عزَّ وجل- ورجاء لثوابه، وإيثارًا لطاعته على معصيته؟!
وقوله-عزَّ وجل-: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}[النساء: 18]، فسوَّى بين من تاب عند الموت ومن مات من غير توبة، والمراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة، ومشاهدة الملائكة، فإن الإيمان والتوبة وسائر الأعمال إنما تنفع بالغيب؛ فإذا كُشِف الغطاء، وصار الغيب شهادة؛ لم ينفع الإيمان ولا التوبة في تلك الحال، وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: "لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت بقبض روحه، فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ".
واعلم أن الإنسان ما دام يؤمِّل الحياة؛ فإنه لا يقطع أمله في الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجِّيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقَّن الموت، وأيس من الحياة؛ أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يُجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت، وقد حذَّر الله في كتابه عباده من ذلك؛ ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح، قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَاتَشْعُرُونَ*أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}[الزمر: 56]، قال الفضيل: "يقول الله-عزَّ وجل-: ابن آدم! إذا كنت تتقلَّب في نعمتي وأنت تتقلَّب في معصيتي، فاحذرني لا أصرعك بين معاصي".
وفي حديث خرَّجه الترمذي مرفوعًا: (ما من أحد يموت إلا ندم قالوا: وما ندامته؟ قال: إن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب)، إذا ندم المحسن عند الموت فكيف يكون حال المسيء؟ غاية أمنية الموتى في قبورهم: حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، وأهل الدنيا يفرِّطون في حياتهم، فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعًا، ومنهم من يقطعها بالمعاصي: قال بعض السلف: "أصبحتم في أمنية ناس كثير"، يعني أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعة؛ ليتوبوا فيها، ويجتهدوا في الطاعة، ولا سبيل لهم إلى ذلك.
والناس في التوبة على أقسام:
فمنهم: من لا يُوفَّق لتوبة نصوح، بل يُيَسَّر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصرًا عليها، وهذه حالة الأشقياء، وأقبح من ذلك: من يُسِّر له في أول عمره عمل الطاعات، ثم خُتِم له بعمل سيء حتى مات عليه، كما في الحديث الصحيح: (إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وفي الحديث الذي خرَّجه أهل السنن: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين عامًا، ثم يحضره الموت، فيجور في وصيته فيدخل النار).
ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها عاملة ناصبة تصلى نارًا حامية؟ كم من شارف مركبه ساحل النجاة، فلما همَّ أن يرقى لعب به موج الهوى، فغرق الخلق كلهم تحت هذا الخطر. قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء، قال بعضهم: "ما العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا".
وقسم يُفْنِي عمره في الغفلة والبطالة، ثم يُوفَّق لعمل صالح فيموت عليه، وهذه حالة من عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها.
وبقي هاهنا قسم آخر وهو أشرف الأقسام وأرفعها: وهو من يُفْنِي عمره في الطاعة، ثم يُنَبَّه على قرب الأجل؛ لِيجدَّ في التزود، ويتهيَّأ للرحيل بعمل يصلح للقاء يكون خاتمه للعمل، قال ابن عباس: لما نزلت على النبي-صلى الله عليه وسلم-: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر: 1]، نعيت لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-، نفسه فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة، قالت أم سلمة: "كان النبي-صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله ويحمده، فذكرت ذلك له، فقال: (إني أمرت بذلك)، وتلا هذه السورة".
كان من عادته-صلى الله عليه وسلم-أن يعتكف في كل عام في رمضان عشرًا، ويعرض القرآن على جبريل مرة، فاعتكف في ذلك العام عشرين يومًا، وعرض القرآن مرتين، وكان يقول: (ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي)، ثم حجَّ حجة الوداع وقال للناس: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، وطَفِقَ يودِّع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع، ثم رجع إلى المدينة، فخطب قبل وصوله إليها وقال: (أيها الناس، إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب)، ثم أمر بالتمسك بكتاب الله، ثم توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسير-صلى الله عليه وسلم-، إذا كان سيد المحسنين يُؤْمَر أن يختم عمره بالزيادة في الإحسان، فكيف يكون حال المسيء؟!
قال بعض السلف: "أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين"، يشير إلى أن المؤمن لا ينبغي أن يصبح ويمسي إلا على توبة؛ فإنه لا يدري متى يفاجئه الموت، صباحًا أو مساء، فمن أصبح أو أمسى على غير توبة؛ فهو على خطر؛ لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب، فَيُحْشَر في زمرة الظالمين، قال الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات: 11].
المرجع: لطائف المعارف فيما المواسم العام من الوظائف
للإمام الحافظ: زين الدين أبي الفرج عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي الدمشقي
فهم جيرة الأحياء أما قرارهم ... فدان وأما الملتقى فبعيد
فالحي قريب، والميت بعيد من الدنيا على قربه منها، فإن جسمه في الأرض يَبْلَى، وروحه عند الله تُنَعَّم أو تُعَذَّب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا.
ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ}، قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أفضل أوقات التوبة: هو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به؛ حتى يتمكَّن حينئذٍ من العمل الصالح، ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن، وأيضًا فالتوبة في الصحة ورجاء الحياة تشبه الصدقة بالمال في الصحة ورجاء البقاء، والتوبة في المرض عند حضور إمارات الموت يشبه الصدقة بالمال عند الموت، فكأن من لا يتوب إلا في مرضه قد استفرغ صحته وقوته في شهوات نفسه وهواه ولذة دنياه، فإذا أيس من الدنيا والحياة فيها؛ تاب حينئذٍ وترك ما كان عليه، فأين توبة هذا من توبة من يتوب من قريب وهو صحيح قوي قادر على عمل المعاصي فيتركها خوفًا من الله-عزَّ وجل- ورجاء لثوابه، وإيثارًا لطاعته على معصيته؟!
وقوله-عزَّ وجل-: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}[النساء: 18]، فسوَّى بين من تاب عند الموت ومن مات من غير توبة، والمراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة، ومشاهدة الملائكة، فإن الإيمان والتوبة وسائر الأعمال إنما تنفع بالغيب؛ فإذا كُشِف الغطاء، وصار الغيب شهادة؛ لم ينفع الإيمان ولا التوبة في تلك الحال، وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: "لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت بقبض روحه، فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ".
واعلم أن الإنسان ما دام يؤمِّل الحياة؛ فإنه لا يقطع أمله في الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجِّيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقَّن الموت، وأيس من الحياة؛ أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يُجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت، وقد حذَّر الله في كتابه عباده من ذلك؛ ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح، قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَاتَشْعُرُونَ*أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}[الزمر: 56]، قال الفضيل: "يقول الله-عزَّ وجل-: ابن آدم! إذا كنت تتقلَّب في نعمتي وأنت تتقلَّب في معصيتي، فاحذرني لا أصرعك بين معاصي".
وفي حديث خرَّجه الترمذي مرفوعًا: (ما من أحد يموت إلا ندم قالوا: وما ندامته؟ قال: إن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب)، إذا ندم المحسن عند الموت فكيف يكون حال المسيء؟ غاية أمنية الموتى في قبورهم: حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، وأهل الدنيا يفرِّطون في حياتهم، فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعًا، ومنهم من يقطعها بالمعاصي: قال بعض السلف: "أصبحتم في أمنية ناس كثير"، يعني أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعة؛ ليتوبوا فيها، ويجتهدوا في الطاعة، ولا سبيل لهم إلى ذلك.
والناس في التوبة على أقسام:
فمنهم: من لا يُوفَّق لتوبة نصوح، بل يُيَسَّر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصرًا عليها، وهذه حالة الأشقياء، وأقبح من ذلك: من يُسِّر له في أول عمره عمل الطاعات، ثم خُتِم له بعمل سيء حتى مات عليه، كما في الحديث الصحيح: (إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وفي الحديث الذي خرَّجه أهل السنن: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين عامًا، ثم يحضره الموت، فيجور في وصيته فيدخل النار).
ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها عاملة ناصبة تصلى نارًا حامية؟ كم من شارف مركبه ساحل النجاة، فلما همَّ أن يرقى لعب به موج الهوى، فغرق الخلق كلهم تحت هذا الخطر. قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء، قال بعضهم: "ما العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا".
وقسم يُفْنِي عمره في الغفلة والبطالة، ثم يُوفَّق لعمل صالح فيموت عليه، وهذه حالة من عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها.
وبقي هاهنا قسم آخر وهو أشرف الأقسام وأرفعها: وهو من يُفْنِي عمره في الطاعة، ثم يُنَبَّه على قرب الأجل؛ لِيجدَّ في التزود، ويتهيَّأ للرحيل بعمل يصلح للقاء يكون خاتمه للعمل، قال ابن عباس: لما نزلت على النبي-صلى الله عليه وسلم-: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر: 1]، نعيت لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-، نفسه فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة، قالت أم سلمة: "كان النبي-صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله ويحمده، فذكرت ذلك له، فقال: (إني أمرت بذلك)، وتلا هذه السورة".
كان من عادته-صلى الله عليه وسلم-أن يعتكف في كل عام في رمضان عشرًا، ويعرض القرآن على جبريل مرة، فاعتكف في ذلك العام عشرين يومًا، وعرض القرآن مرتين، وكان يقول: (ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي)، ثم حجَّ حجة الوداع وقال للناس: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، وطَفِقَ يودِّع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع، ثم رجع إلى المدينة، فخطب قبل وصوله إليها وقال: (أيها الناس، إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب)، ثم أمر بالتمسك بكتاب الله، ثم توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسير-صلى الله عليه وسلم-، إذا كان سيد المحسنين يُؤْمَر أن يختم عمره بالزيادة في الإحسان، فكيف يكون حال المسيء؟!
قال بعض السلف: "أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين"، يشير إلى أن المؤمن لا ينبغي أن يصبح ويمسي إلا على توبة؛ فإنه لا يدري متى يفاجئه الموت، صباحًا أو مساء، فمن أصبح أو أمسى على غير توبة؛ فهو على خطر؛ لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب، فَيُحْشَر في زمرة الظالمين، قال الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات: 11].
المرجع: لطائف المعارف فيما المواسم العام من الوظائف
للإمام الحافظ: زين الدين أبي الفرج عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي الدمشقي