(إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 34).
أثار المشككون الشغب حول تفسير علم ما في الأرحام بعمومه على أنه أحد الغيوب الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وقالوا لقد بات العلماء يعرفون ما في الأرحام من ذكورة الجنين أو أنوثته، والتشوهات الخلقية فيه، وهو في بطن أمه بأجهزة التصوير والتحاليل الدقيقة! وأصبح في مقدور العلماء إنزال المطر من السحب، بواسطة بعض التقنيات العلمية! فأثاروا البلبلة في أذهان الكثيرين من العوام، وعند غير الراسخين في العلم بهذا الموضوع! وهب بعض العلماء المعاصرين يدفعون الشبهة وينافحون عن تفسير النص القرآني، لكنهم للأسف أخطئوا طريق الدفاع الصحيح! فلم يحرروا محل النزاع بدقة، ولم ينظروا إلى النصوص الواردة في الموضوع مجتمعة، ولم يدرسوا الأمر دراسة موضوعية، فطاشت سهامهم! وبقيت الشبهة حية في عقول وأفواه الكثيرين من الناس. وفي هذا البحث سنناقش هذا الموضوع باختصار في الإجابة على الأسئلة التالية: ما الفرق بين علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وبين علم الله المحيط بعالم الشهادة؟ وكيف حدث الخلط بينهما.؟ وهل يمكن أن يعلم البشر شيئا من مفاتح الغيب؟ وما هو العلم الذي لا يعلمه إلا الله لما في الأرحام؟ وما هو الزمن الذي تتعلق به مفاتح الغيب الخمس؟ وهل يوجد وجه للإعجاز في التحدي بهذه المغيبات الخمس.
قال الله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا في البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام: 59).
تحدثت الآية الكريمة في أولها عن عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله, ثم تحدثت في الجزء الثاني منها عن علم الله الشامل المحيط في عالم الشهادة فما هو عالم الغيب وما هو عالم الشهادة؟
الغيب: هو ما غاب عن حواس الإنسان أو عن علمه وبصيرته، أو ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم بعضه بخبر الأنبياء ـ عليهم السلام.
قال ابن جرير الطبري(1): أخبر الله تعالى أن عنده علم كل شئ كان ويكون وما هو كائن مما لم يكن بعد وذلك هو الغيب. وقال صاحب المنار(2): الغيب هو ما حجب الله علمه عن الناس،بعدم تمكينهم من أسباب العلم به، لكونه مما لا تدركه مشاعرهم الظاهرة ولا الباطنة؛ كعالم الآخرة.
وعرف ابن عاشور الغيب فقال(3): والغيب ما غاب عن علم الناس، بحيث لا سبيل لهم إلى علمه، وذلك يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن، والأعراض الخفية، ومواقيت الأشياء. وحصره الماوردي(4): في علم الماضي الذي لا يعلمه أحد، وعلم المستقبل.
وينقسم الغيب من حيث الزمان إلى:
غيب الماضي: كالعلم بأحداث القرون التي مضت.
غيب الحاضر: مثل تسجيل الملائكة الأعمال، وما يدور في النفوس.
غيب المستقبل: مثل العلم بالموجودات قبل إيجادها، وعلم وقت قيام الساعة، ومواقيت حدوث الموت.
كما ينقسم الغيب من حيث علم المخلوقين به إلى قسمين: غيب حقيقي، وغيب إضافي.
قال صاحب المنار(2): والغيب قسمان: غيب حقيقي مطلق؛ وهو ما غاب علمه عن جميع الخلق حتى الملائكة، وفيه يقول الله ـ عز وجل: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ) (النمل: 65). وغيب إضافي وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض؛ كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر، وأما ما يعلمه البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها، ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب، أو عجزهم عن استعمالها، فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله.
عالم الشهادة:
الشهادة لغة واصطلاحا: المعاينة أو الإخبار بالخبر القاطع،أو مجموع ما يدرك بالحس أو البصر من الموجودات. وعالم الشهادة هو عالم الأكوان الظاهرة..
ولقد تحدثت الآية الكريمة (وعنده مفاتح الغيب..الآية) في الجزء الثاني منها عن علم الله الشامل المحيط في عالم الشهادة.متمثلا بموجودات البر والبحر , كلياتها وجزئياتها , صفاتها وأحوالها ومآلاتها، ودقائق تفاصيلها وسنن تسخيرها.تحقيقا لقوله تعالى: (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) (الطلاق: 12).
ولم يحجب الله عن البشر الطرق والوسائل الموصلة للعلم بهذه الموجودات، بالقدر الذي يتناسب وطاقتهم وحاجتهم لتسخيرها، فيما ينفعهم للقيام بعمارة الأرض، ولا تعارض مطلقا بين علم البشر بأي شيء في هذا الوجود، وبين علم الله المحيط المطلق فيه.
وتطلق مفاتح الغيب في اللغة والاصطلاح على: الطرق والوسائل التي يتوصل بها للغيب أو على خزائن الغيب. ومفاتح الغيب جمع مضاف يعم كل المغيبات، أو هي علم الله بجميع الأمور الغيبية.(5) وقد خصص هذا العموم بعض المفسرين(6)؛ بخزائن الأقدار و الأرزاق، أو الثواب والعقاب، أو عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال.
والصحيح أن العموم في مفاتح الغيب خصصه النبي بخمسة أشياء فقط، بقوله عليه الصلاة والسلام: مفاتح الغيب خمس، وذكر آية لقمان (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا و وما تدري نفس بآي أرض تموت، إن الله عليم خبير) رواه البخاري.
الخلط بين العلم بمفاتح الغيب وعلم الله المحيط بعالم الشهادة.
لم ينظر معظم الذين كتبوا في هذا الموضوع من المعاصرين إلى جميع النصوص الواردة في قضية مفاتح الغيب الخمس، حينما نظروا إلى قول الله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ليزيلوا شبهة التعارض بين ما ثبت من الحقائق العلمية في علم الأجنة الحديث، وبين التفسير الشائع لعلم ما في الأرحام، الذي يدخل قضية علم نوع الجنين وصفاته الخلقية، في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فقالوا: إنه لا تعارض مطلقا بين علم البشر، وعلم الله لما في الأرحام، فعلم البشر علم جزئي، وعلم الله محيط شامل للذكورة والأنوثة وغيرها؛ من الأجل والرزق والشقاء والسعادة وغير ذلك، فوقعوا بهذا التفسير في خلط جلي؛ بين الغيب الحقيقي المقصور علمه على الله تعالى وحده في مفاتح الغيب الخمس، وبين علم الله المحيط الشامل لعالم الشهادة من الموجودات؛ والتي يمكن أن يتعلق ببعضها أو ببعض أجزائها علم البشر؛ بواسطة إدراك العلماء وتعلمهم لسنن الكون والحياة. لكن الناظر إلى قوله تعالى:
(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر.. الآية) يجد أن الله سبحانه فصل بين القضيتين بوضوح و أن النبي قد أخبر أن الخمس الواردة في آية سورة لقمان هي مفاتح الغيب الخمس، بتحديد ظاهر لا لبس فيه.
د. عبدالجواد محمد الصاوي
مازال للموضوع بقية، لكن كالعادة نقسمه الى اجزاء حتى تتم الفائدة ان شاء الله
اسال الله ان ينفع به و بكم.