شبهة القصص القرآني لا يجسد أحداث التاريخ |
الشبهة يقولون: جاءت المادة التاريخية في القرآن لتكون في خدمة الدعوة الإسلامية، فلم تخضع لمناهج البحث العلمية، إنما كانت مادة موجَّهة تسيطر عليها الأغراض الدينية، فأصبحت مُجَسِّدةً لحياة محمد وأتباعه وقومه، لا لأحداث التاريخ الحقيقية، فسِيَر الأنبياء المذكورين في القرآن ليست حتماً هي أحداث حياتهم بقدر ما هي أحداث الدعوة المحمدية! الإجابة نقول وبالله تعالى التوفيق: أكثر قصص الأنبياء والدعاة في القرآن الكريم، تحوي مشاهد تتشابه مع قصص باقي الأنبياء والدعاة، والقصة القرآنية تنتقي المشاهد الملائمة لسياق الآيات الكريمة وشخصية السورة الكريمة المذكورة فيها، دليلاً عملياً صادقاً ومثالاً حياً على صحة ما فيها من تشريعات وأخلاق وسنن كونية وأساليب ناجحة في الخطاب الدعوي. فتتحقق إحدى الأغراض الرئيسة للقصص القرآني وهي: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والدعاة المضطهدين من الطغاة، فهل يطلب مثيرو الشبهات أن يذكر الله جل جلاله قصص صبر أولي العزم من الرسل بعد الهجرة إلى المدينة، حيث المسلمين آمنين مطمئنين، فتحت لهم الدنيا ؟! كل ذلك من محاسن القصص القرآني وصدقها، وحسن انتقاء ما يوافق من أحداثها لما يهم المسلم في كل عصر ومصر، ومن هنا نجد القرآن الكريم يقدم من خلال قصصه الحق، طرق معالجة مجرَّبة للواقعَ الذي كان يعيشه المسلمون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكر ما يتطابق من الأحداث مع هذا الواقع من ناحية، كما يعالج الواقع الذي تعيشه الأجيال والعصور الإنسانية المستقبلية من ناحية أُخرى. فإنّ انطباق هذا الكلام على القصص والأحداث ذات العلاقة بالأنبياء وأقوامهم، أو بالتاريخ الماضي إنّما هو بملاحظة هذا البعد وتلك الصفة في القصة القرآنية، وما أجَلَّها من حكمة! وفي قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111] إشارة إلى هذه المزية من مزايا القصص القرآني. فمَن يستفيد مِن تجارب غيره، يضيف أعماراً إلى عمره! كما أنها تبين عدداً من السنن الإلهية الثابتة الخاصة بالأمم والجماعات والأفراد، يتخذ منها العقلاء مرآة ينظرون منها إلى أنفسهم وحياتهم وأحوال مجتمعاتهم. إنّ القصص التاريخية عندما تكون شتاتاً من الأحداث المتفرقة التي تتجمع وتتفرق بصورة اعتباطية، ومن دون بيان عبرة مستقاة من قانون وسنة مذكورة فيها تفقد الشفافية التي تمكن الإنسان أن ينظر منها إلى نفسه وعصره وأمته، ولكن عندما يكون التاريخ مجموعة من السنن والقوانين الثابتة، فإن بإمكان الإنسان أن ينظر من خلال مرآة التاريخ إلى نفسه وعصره، ويقوِّم من خلال هذه المرآة نفسه ومجتمعه. هذا ما نص عليه القرآن الكريم: قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]. وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام: 123]. وقال عز وجل: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [يونس: 13]. وقال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [الرعد: 6]. وفي سورة الإسراء: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الآية: 16، 17]. قال تعالى: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [النمل: 52]. قال تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت: 13]. وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [محمد: 10]. الآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة، وكلّها تنطق بهذا الفهم العلمي الدقيق للتاريخ: فيها عبرة وسنن وقوانين وأصول ثابتة للتاريخ والحياة، فلا هزيمة ولا انتكاسة، ولا ازدهار ونمو ونضج، إلاّ بموجب قوانين وسنن إلهية ثابتة. وهذه السنن كلها لله تعالى أوجدها بمشيئته وحكمته، وهدى إليها عباده وما القصص القرآني إلا نماذج تنادي بالإنسان: التمس العبرة مني، فالعاقل من اتعظ بنفسه، ودونه من يجعل نفسه عِظةً للآخرين. بهذا المنطق خاطب سيدنا هود عليه السلام عاداً: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأعراف: 69]. ثم صالحٌ مخاطبًا ثموداً: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف: 74]. تلك كانت أبرز سمات القصص القرآني التي يتبين للناظر المنصف إليها، أنها مزية للقصص القرآني، ليس كمثلها قصص في الدنيا، ومع ذلك تستمر الشبهات حول القصص القرآني تحاول النيل من صدقها وواقعيتها، وتطعن في تكرار بعضها، وتزعم أنها متناقضة، ولكن هيهات هيهات. ========================= * موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة |
عدل سابقا من قبل هومه في السبت 07 فبراير 2009, 7:24 am عدل 1 مرات