وعلمك ما لم تكن تعلم
الشيخ عائض القرني
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً مباركاً .
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .
أما بعد :
حــمـداً لمـن بـلـغــنا المــراما وزادنــا مـن فـضـلـه إكــراماً
ثـم صــــلاة الله مــا ســــوى بــرق عــلى طـيـبة وأم القـرى
مـع الســلام يـغــشـيـان أحـمدا وآله المـســـتكـملـين الرشـــدا
حمداً لك اللهم علمتنا وما كنا لنعلم .. وفقهتنا وما كنا لنتفقه .
رفعت بالإسلام رؤوسنا وكانت مخفوضة .. وشرحت بالإسلام صدورنا وكانت ضيقة .
أحبائي في الله .. هذه الرسالة تتكون من عناصر متتالية هي :
أولاً : فضل العلم
والعنصر الثاني: تشجيعه ( صلى الله عليه وسلم ) للعلماء وللأساتذة والمربين .
العنصر الثالث : طرق تعليمه ( صلى الله عليه وسلم ) وتندرج تحتها أربع مسائل
أولها : القدرة بالعمل والتعليم بالقدرة .
ثانيها : ضرب الأمثلة .
ثالثها : الخطاب والوعظ .
رابعها : مراعاة المناسبات .
أما العنصر الرابع : فمبدأ التخصص العلمي كما وضعه ( صلى الله عليه وسلم ) للناس .
أما فضل العلم : فقد قال سبحانه : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )(الزمر: من الآية9) ثم ترك الجواب لوضوحه أي لا يستوون .
وقال سبحانه وتعالى : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(المجادلة: من الآية11) .
وقال سبحانه وتعالى : ( وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(العنكبوت: من الآية43) .
وعندما أراد الله أن يستشهد على ألوهيته استشهد العلماء : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18 ) .
والله يقول في الآيات : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ )(العنكبوت: من الآية49).
والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عندما بدأ دعوته بدأ بالعلم ، لأن الله قال له : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ )(محمد: من الآية19) ، قال البخاري في الصحيح ك فبدأ بالعلم قبل القول والعمل .
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً فكان منها أرض طيبة ـ وعند مسلم ـ نقية ، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير .
وكان منها أرض أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا .
وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فيها بعثني الله بع فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به )، ما أحسن اللفظ !
بالله لـفـظـك هـذا ســال مـن عـسـل أم قـد صــببت على أفـواهـنا العـسلا
أم المــعــاني اللـواتي قــد أتيـت بها أرى بـهـا الــدر واليـاقــوت متصلاً
لماذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديث : ( الغيث ) ن ولم يقل : ( المطر ) ؟
ولماذا قال : ( بعثني ) ولم يقل : ( أرسلني ) ؟
ولماذا قال (طائفة) طيبة ولم يقل : (تربة ) طيبة .
ولماذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الهدى والعلم) ولم يقل : ( الهدى ) ويسكت .
هذه أسرار بلاغية في الحديث وحل إشكالها كالتالي .
أما قوله : الغيث ، فإن الله سبحانه في القرآن يذكر الغيث للرحمة غلباً ، إذا أراد أن يذكر سبحانه وتعالى العذاب قال : ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (الشعراء:173) فعدل ( صلى الله عليه وسلم ) عن المطر إلى الغيث لأجل هذا .
قال القرطبي:لأن الغيث صاف من السماء ، فشبه علمه بالغيث الصافي الذي ما خالطته الفلسفة وما داخله المنطق .
والغيث أيضاً : فيه غوث للقلوب وكذلك العلم .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) من العلم والهدى .. لأن رسالته ( صلى الله عليه وسلم ) أتت بالعلم النافع والهدى ، وهو العمل الصالح .
ولذلك يقول ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم نقلاً عن سفيان بن عيينة : من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى ، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود .. لأن رسالته ( صلى الله عليه وسلم ) ليست ساذجة تعبدية تقليدية ، وليست علمية تنظيرية ، ولكنها جمعت بين العلم والعبادة ، وبين الفكر والإدارة وبين المعتقد والسلوك ، ولذلك ذم الله بني إسرائيل بأنهم تعلموا لكن لم يعملوا .
ومنهم من قال الله فيه ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (لأعراف:176) .
ووصف الله بني إسرائيل بصفة الحمار الذي يحمل ولا يفهم : ( كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) (الجمعة: من الآية5) .
يتبع ان شاء الله...