في يوم من الأيام، وبينما كان الإمام مالك رحمه الله في مجلسه بين جملة من أصحابه، إذا بقائل يقول: قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه إلا واحدًا منهم، اسمه يحيى بن يحيى، وكان قد حضر من الأندلس إلى المدينة المنورة؛ ليسمع ويتعلم على يد الإمام مالك رحمه الله.
فتعجب مالك رحمه الله من صنيع يحيى، وقال له: لِمَ لم تخرج فترى الفيل؛ إذ ليس بأرض الأندلس؟ فرد عليه يحيى بن يحيى بكلمات تقطر بالحكمة وتخلص سبب من أسباب نبوغه، فقال: إنما جئت من بلدي، لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، لا إلى أن أنظر إلى الفيل.
ومن يومها أعجب به مالك وسماه العاقل، وعُرف ذلك التلميذ النجيب بعاقل أهل الأندلس، حتى قال الفقيه المالكي ابن لبابة الأندلسي: (فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها ابن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى)، بل وزاد على ذلك الشيرازي حين وصف يحيى بن يحيى بقوله: (وإليه انتهت الرئاسة بالأندلس في العلم).
إنه موقف يخبرنا فيه يحيى بن يحيى عن سبب من أسباب عبقرية أي إنسان في الحياة، وعن سر من أسرار نجاح أي فرد في تحقيق أحلامه، ألا وهو القدرة على التركيز على أهداف الحياة دون سواها، وصب الاهتمام على إنجاز الأولويات دون غيرها، فهيَّا بنا ـ عزيزي القارئ ـ لنبحر معًا في سفينة التركيز، حتى تصل بنا إلى شاطئ النجاح.
العدسة المجمعة:
هل جربت أن تجعل ضوء الشمس ينفذ عبر عدسة مجمعة للضوء؛ لكي يسقط على ورقة بيضاء؟ إن لم تكن قد جربت ذلك من قبل، فدعني أصف لك المشهد.
ببساطة سيصبح ضوء الشمس، ذلك النجم الكبير، كأنه نقطة أو على الأكثر دائرة صغيرة على تلك الورقة البيضاء، ولو كانت تلك العدسة المجمعة ذات قوة عالية في التركيز والتجميع، فيمكنها أن تحرق تلك الورق أو أن تحدث فيها ثقبًا على الأقل!
ربما تقول وما علاقة نجاحي بتلك العدسة المجمعة وضوء الشمس، وتلك التجارب الفيزيائية، والنظريات العلمية المعقدة؟! وهذا ما قد يبدو لأول وهلة صحيحًا، ولكن ثمة علاقة لصيقة بينهما.
فالشمس في المثال السابق بمثابة الطاقات والإمكانات البشرية، والعدسة المجمعة هي قدرة الذهن على التركيز، والثقب الذي حدث في الورقة البيضاء هو نتاج تركيز الذهن على استثمار تلك الطاقات والإمكانات.
الجواب على الأسئلة المحيرة:
أحيانًا ما يقف العقل البشري حائرًا؛ من أجل الإجابة عن بعض الأسئلة المحيرة، مثل أن يسأل أحدنا نفسه فيقول: لماذا يكون إنجازي للأهداف بطئيًا؟ أو ربما يسأل آخر: لقد بذلت الكثير من المجهود في المذاكرة، ولكنني لا أحقق درجات عالية، فلماذا؟! أو يتعجب ثالث فيقول: إنني أعمل لساعات طويلة، وزميلي في العمل يعمل أقل مني، ولكنه ينجز أهدافه بسرعة ودقة أكبر مني، فما السبب؟!
وما سبق ليس إلا أمثلة بسيطة على سيل من الأسئلة وفيضان من علامات الاستفهام، والتي يمكننا أن نجيب عنها بأن السبب الرئيسي هو: ضعف أو ربما فقد التركيز.
المشكلة ليست في الجهاز:
يحكي زيج زيجلار في كتابه (النجاح للمبتدئين) عن موقف شخصيٍّ حدث له فيقول: (عندما أشارك في ندوة صغيرة عادة ما أستخدم الأفلام الشفافة كوسيلة للإيضاح، ودائمًا لا أقوم بضبط بؤرة جهاز العرض عندما أقوم بعرض أول صورة، وغالبًا ما أتظاهر بأنني لم ألاحظ المشكلة، وهكذا أواصل حديثي مع الجماهير لعدة دقائق.
ثم أقوم بمراقبة كل هؤلاء الأفراد الذين يشيرون بأصابعهم إلى الجهاز ليلفتوا انتباهي إلى المشكلة، وفي هذه النقطة أقول للجماهير: في الواقع، ليست هناك مشكلة في الجهاز نفسه، فكل ما هناك أنه يحتاج إلى ضبط، وبالمثل فإن حياة العديد من الناس كهذا الجهاز، لا تحتاج ببساطة سوى لضبط البؤرة، فحياة هؤلاء الناس تسير في عشرات الاتجاهات المختلفة؛ ونتيجة ذلك أنهم نادرًا ما يحققون أهدافهم الرئيسية في الحياة).
وكذلك ـ عزيزي القارئ ـ ليست المشكلة في نقص القدرات والإمكانات؛ فقد حبا الله عز وجل بها كل واحد منا، وإنما يكمن التحدي الأكبر لنا، في ضبط بؤرة التركيز على أهداف الحياة، بدلًا من تشتيتها بين مهام الحياة المختلفة.
الطريق إلى العبقرية:
(العبقرية هي القدرة على التركيز على شيء واحد في المرة الواحدة)، هكذا يصف زيج زيجلار الركن الرئيسي في العبقرية، ألا وهو قوة التركيز، وإليك قصة عبقري من عباقرة العصر الحديث، وهو العالم الشهير نيوتن، فهي قصة توضح لك مدى تركيزه فيما كان يقوم به من العمل، وكيف كان ذلك سفينته إلى شاطئ العبقرية.
ففي يوم من الأيام وبينما هو منشغل بحل واحدة من المشاكل العلمية المعقدة، نسى نيوتن أن يتناول إفطاره، ولم تشأ زوجته أن تقطع عليه خلوته العلمية، ولكنها في الوقت نفسه كانت قلقة عليه من جراء العمل وهو جائع.
فرحت الزوجة كثيرًا حين جاءها البائع ببعض البيض الطازج؛ فقد كان نيوتن مولعًا بتناول مثل هذا البيض مسلوقًا، بل وكان يصنعه بنفسه على موقد صغير في حجرة مكتبه، فناولته البيض، ومدت يدها إليه بالساعة وذكَّرته ألا يترك البيض في الماء حين يغلي أكثر من ثلاث دقائق، وغادرت الحجرة حتى لا تثقل على العالم المجد.
لكنها حين عادت لأخد الوعاء بما تبقى فيه وجدت البيض وما زال في يد نيوتن، كما وجدت الساعة غارقة في وعاء المياه التي طال غليانها، وبالطبع لم تكن تلك حادثة استثنائية في حياة نيوتن، بل يُروى عن تركيزه الكثير من القصص والحكايات.
عقبات على الطريق:
إذًا التركيز هو طريق للنجاح والعبقرية، ولكن دون الوصول إلى ذلك عقبات، تضعف من تركيز الواحد منا، وتجعل ذهنه شاردًا ومشتتًا، ولعل لذلك أسباب من أهمها ما يلي:
- وجود مشكلة ملحة تطاردنا، قد تكون مشكلة شخصية أو عائلية أو عاطفية أو مالية أو اجتماعية.
2- توقع حدوث أمر مخيف والانشغال به.
3- المعاناة من مشكلة صحية.
4- وقوع أمر يؤدي إلى الفرح الشديد.
5- التعود على العيش أسير الخيالات والأوهام غير الواقعية والتعلق بها.
6- أن يكون فى المحيط الذي تعيش أو تعمل فيه ما يشغل الفكر؛ ويؤدى لعدم الارتياح، ومن أمثلة ذلك: الترتيب غير المناسب والمزعج لحجرتك، أو شدة الضوضاء في مكان عملك أو دراستك.
كيف السبيل؟
والطريق إلى تجاوز تلك العقبات، وحيازة قوة التركيز يحتاج إلى مفاتيح ثلاث؛ لفك شفرة كنز التركيز، وهذه المفاتيح هي:
أولًا ـ اجعل بيئتك المحيطة تدفعك إلى التركيز:
1. رتب المكان الذي تجلس فيه؛ فكلما كان المكان مرتبًا، كان ذلك مدعمًا لتركيزك.
2. في أثناء حديثك مع زملائك، اجعل اهتمامك وانتباهك منصبًّا على فهم ما يقولونه، ولا تجعل ما يلبسونه أو يحملونه معهم يشتت ذهنك.
3. قم بتجهيز كل ما تحتاج إليه في إنجاز مهامك من الأدوات والآلات قبل البدء فيها؛ فإن قيامك من أجل جلب هذه الأدوات وسط العمل يشتت الانتباه، ويضعف التركيز.
ثانيًا ـ اجعل صحتك أفضل:
فهناك حكمة تقول: (العقل السليم في الجسم السليم)، ولذا؛ إليك بعض الاقتراحات من أجل صحة أفضل، وتركيز أقوى:
1. إذا شعرت بالإجهاد فتوقف عما تقوم به من مهام، وخذ قسطًا من الاسترخاء، واغمض عينيك، وخذ نفسًا عميقًا عدة مرات، ثم عد لما كنت تقوم به بعد ذلك.
2. إذا كنت تشعر بالخمول، فجدد التهوية فى موقعك، وتحرك قليلًا من مكانك، أو مارس بعض التمارين الرياضية الخفيفة لبضع دقائق.
3. بادر بعلاج ما تعانيه من مشكلات صحية، وإذا كنت تعانى من مشكلة، فلا تبالغ في أمرها، ولا تعطها تفكيرًا أكبر من حجمها.
4. أعطِ نفسك قدرًا كافيًا من الراحة قبل بدء التفكير وممارسة العمل.
5. لا تبدأ التفكير في المسائل المهمة بعد تناول الطعام مباشرة، ولا أثناء الجوع الشديد والظمأ المفرط.
ثالثًا ـ تدرب على التركيز:
1. عوِّد نفسك على أن تعيش لحظتك، وأن تحصر نفسك فيما أنت فيه فقط، وحاول أن تنسى أو تتناسى كل ما عداه.
2. عد الأرقام تنازليًّا من 100 إلى واحد، واحدًا واحدًا، هكذا: 100، 99، 98، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى اثنين اثنين، هكذا: 100، 98، 96، 94، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى ثلاثة ثلاثة، هكذا: 100، 97، 94، 91، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى أربعة أربعة، هكذا: 100، 96، 92، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى خمسة خمسة، هكذا: 100، 95، 90، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى ستة ستة، هكذا: 100، 94، 88، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى سبعة سبعة، هكذا: 100، 93، 86، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى ثمانية ثمانية، هكذا: 100، 92، 84، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى تسعة تسعة، هكذا: 100، 91، 82، ...إلخ.
وكرر هذا التمرين كل يوم مرة لمدة شهر على الأقل.
3. قم بالتدريب الآتي:
· ركِّز على صورة معينة لفترة طويلة نسبيًّا، ركِّز فى ألوانها، وأشكالها، وحجمها، وكل شيء فيها.
· أغمض عينيك، وحاول أن تتذكر كل شيء عن هذه الصورة.
· افتح عينيك، وانظر كم استطعت أن تحصل من تفاصيل فى ذهنك.
وختامًا:
إذًا فالنجاح والتميز في الحياة لا يتوقف فقط على القدرات العقلية الباهرة، ولا على بذل المجهود الوافر، ولكن لابد من قوة تصقل تلك القدرات وتوجه تلك المجهودات، وهذه القوة هي قوة التركيز على الأهداف، والسعي في تحقيقها في أسرع وقت وبأفضل كفاءة.
وتذكر دائمًا قول الروائي الإنجليزي الشهير تشارلز
ديكنز، وهو يصف لك روشتة نجاحه فيقول: (لم أكن أبدًا لأحقق النجاح بدون عادات الدقة والنظام والاجتهاد والتصميم على التركيز على عمل واحد كل مرة).
أهم المراجع:
1. النجاح للمبتدئين، زيج زيجلار.
2. حتى لا تكون كلًّا، د.عوض القرني.
3. قوة التركيز، د.آن ويزر كورنيل.
4. أنت عبقري ولكن كيف تنمي قدراتك، محمد فتحي.
5. قوة التركيز، جاك كانفيلد ومارك فيكتور هانسن ولس هيوت.
6. ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض.
المصدر: مفكرة الإسلام
فتعجب مالك رحمه الله من صنيع يحيى، وقال له: لِمَ لم تخرج فترى الفيل؛ إذ ليس بأرض الأندلس؟ فرد عليه يحيى بن يحيى بكلمات تقطر بالحكمة وتخلص سبب من أسباب نبوغه، فقال: إنما جئت من بلدي، لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، لا إلى أن أنظر إلى الفيل.
ومن يومها أعجب به مالك وسماه العاقل، وعُرف ذلك التلميذ النجيب بعاقل أهل الأندلس، حتى قال الفقيه المالكي ابن لبابة الأندلسي: (فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها ابن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى)، بل وزاد على ذلك الشيرازي حين وصف يحيى بن يحيى بقوله: (وإليه انتهت الرئاسة بالأندلس في العلم).
إنه موقف يخبرنا فيه يحيى بن يحيى عن سبب من أسباب عبقرية أي إنسان في الحياة، وعن سر من أسرار نجاح أي فرد في تحقيق أحلامه، ألا وهو القدرة على التركيز على أهداف الحياة دون سواها، وصب الاهتمام على إنجاز الأولويات دون غيرها، فهيَّا بنا ـ عزيزي القارئ ـ لنبحر معًا في سفينة التركيز، حتى تصل بنا إلى شاطئ النجاح.
العدسة المجمعة:
هل جربت أن تجعل ضوء الشمس ينفذ عبر عدسة مجمعة للضوء؛ لكي يسقط على ورقة بيضاء؟ إن لم تكن قد جربت ذلك من قبل، فدعني أصف لك المشهد.
ببساطة سيصبح ضوء الشمس، ذلك النجم الكبير، كأنه نقطة أو على الأكثر دائرة صغيرة على تلك الورقة البيضاء، ولو كانت تلك العدسة المجمعة ذات قوة عالية في التركيز والتجميع، فيمكنها أن تحرق تلك الورق أو أن تحدث فيها ثقبًا على الأقل!
ربما تقول وما علاقة نجاحي بتلك العدسة المجمعة وضوء الشمس، وتلك التجارب الفيزيائية، والنظريات العلمية المعقدة؟! وهذا ما قد يبدو لأول وهلة صحيحًا، ولكن ثمة علاقة لصيقة بينهما.
فالشمس في المثال السابق بمثابة الطاقات والإمكانات البشرية، والعدسة المجمعة هي قدرة الذهن على التركيز، والثقب الذي حدث في الورقة البيضاء هو نتاج تركيز الذهن على استثمار تلك الطاقات والإمكانات.
الجواب على الأسئلة المحيرة:
أحيانًا ما يقف العقل البشري حائرًا؛ من أجل الإجابة عن بعض الأسئلة المحيرة، مثل أن يسأل أحدنا نفسه فيقول: لماذا يكون إنجازي للأهداف بطئيًا؟ أو ربما يسأل آخر: لقد بذلت الكثير من المجهود في المذاكرة، ولكنني لا أحقق درجات عالية، فلماذا؟! أو يتعجب ثالث فيقول: إنني أعمل لساعات طويلة، وزميلي في العمل يعمل أقل مني، ولكنه ينجز أهدافه بسرعة ودقة أكبر مني، فما السبب؟!
وما سبق ليس إلا أمثلة بسيطة على سيل من الأسئلة وفيضان من علامات الاستفهام، والتي يمكننا أن نجيب عنها بأن السبب الرئيسي هو: ضعف أو ربما فقد التركيز.
المشكلة ليست في الجهاز:
يحكي زيج زيجلار في كتابه (النجاح للمبتدئين) عن موقف شخصيٍّ حدث له فيقول: (عندما أشارك في ندوة صغيرة عادة ما أستخدم الأفلام الشفافة كوسيلة للإيضاح، ودائمًا لا أقوم بضبط بؤرة جهاز العرض عندما أقوم بعرض أول صورة، وغالبًا ما أتظاهر بأنني لم ألاحظ المشكلة، وهكذا أواصل حديثي مع الجماهير لعدة دقائق.
ثم أقوم بمراقبة كل هؤلاء الأفراد الذين يشيرون بأصابعهم إلى الجهاز ليلفتوا انتباهي إلى المشكلة، وفي هذه النقطة أقول للجماهير: في الواقع، ليست هناك مشكلة في الجهاز نفسه، فكل ما هناك أنه يحتاج إلى ضبط، وبالمثل فإن حياة العديد من الناس كهذا الجهاز، لا تحتاج ببساطة سوى لضبط البؤرة، فحياة هؤلاء الناس تسير في عشرات الاتجاهات المختلفة؛ ونتيجة ذلك أنهم نادرًا ما يحققون أهدافهم الرئيسية في الحياة).
وكذلك ـ عزيزي القارئ ـ ليست المشكلة في نقص القدرات والإمكانات؛ فقد حبا الله عز وجل بها كل واحد منا، وإنما يكمن التحدي الأكبر لنا، في ضبط بؤرة التركيز على أهداف الحياة، بدلًا من تشتيتها بين مهام الحياة المختلفة.
الطريق إلى العبقرية:
(العبقرية هي القدرة على التركيز على شيء واحد في المرة الواحدة)، هكذا يصف زيج زيجلار الركن الرئيسي في العبقرية، ألا وهو قوة التركيز، وإليك قصة عبقري من عباقرة العصر الحديث، وهو العالم الشهير نيوتن، فهي قصة توضح لك مدى تركيزه فيما كان يقوم به من العمل، وكيف كان ذلك سفينته إلى شاطئ العبقرية.
ففي يوم من الأيام وبينما هو منشغل بحل واحدة من المشاكل العلمية المعقدة، نسى نيوتن أن يتناول إفطاره، ولم تشأ زوجته أن تقطع عليه خلوته العلمية، ولكنها في الوقت نفسه كانت قلقة عليه من جراء العمل وهو جائع.
فرحت الزوجة كثيرًا حين جاءها البائع ببعض البيض الطازج؛ فقد كان نيوتن مولعًا بتناول مثل هذا البيض مسلوقًا، بل وكان يصنعه بنفسه على موقد صغير في حجرة مكتبه، فناولته البيض، ومدت يدها إليه بالساعة وذكَّرته ألا يترك البيض في الماء حين يغلي أكثر من ثلاث دقائق، وغادرت الحجرة حتى لا تثقل على العالم المجد.
لكنها حين عادت لأخد الوعاء بما تبقى فيه وجدت البيض وما زال في يد نيوتن، كما وجدت الساعة غارقة في وعاء المياه التي طال غليانها، وبالطبع لم تكن تلك حادثة استثنائية في حياة نيوتن، بل يُروى عن تركيزه الكثير من القصص والحكايات.
عقبات على الطريق:
إذًا التركيز هو طريق للنجاح والعبقرية، ولكن دون الوصول إلى ذلك عقبات، تضعف من تركيز الواحد منا، وتجعل ذهنه شاردًا ومشتتًا، ولعل لذلك أسباب من أهمها ما يلي:
- وجود مشكلة ملحة تطاردنا، قد تكون مشكلة شخصية أو عائلية أو عاطفية أو مالية أو اجتماعية.
2- توقع حدوث أمر مخيف والانشغال به.
3- المعاناة من مشكلة صحية.
4- وقوع أمر يؤدي إلى الفرح الشديد.
5- التعود على العيش أسير الخيالات والأوهام غير الواقعية والتعلق بها.
6- أن يكون فى المحيط الذي تعيش أو تعمل فيه ما يشغل الفكر؛ ويؤدى لعدم الارتياح، ومن أمثلة ذلك: الترتيب غير المناسب والمزعج لحجرتك، أو شدة الضوضاء في مكان عملك أو دراستك.
كيف السبيل؟
والطريق إلى تجاوز تلك العقبات، وحيازة قوة التركيز يحتاج إلى مفاتيح ثلاث؛ لفك شفرة كنز التركيز، وهذه المفاتيح هي:
أولًا ـ اجعل بيئتك المحيطة تدفعك إلى التركيز:
1. رتب المكان الذي تجلس فيه؛ فكلما كان المكان مرتبًا، كان ذلك مدعمًا لتركيزك.
2. في أثناء حديثك مع زملائك، اجعل اهتمامك وانتباهك منصبًّا على فهم ما يقولونه، ولا تجعل ما يلبسونه أو يحملونه معهم يشتت ذهنك.
3. قم بتجهيز كل ما تحتاج إليه في إنجاز مهامك من الأدوات والآلات قبل البدء فيها؛ فإن قيامك من أجل جلب هذه الأدوات وسط العمل يشتت الانتباه، ويضعف التركيز.
ثانيًا ـ اجعل صحتك أفضل:
فهناك حكمة تقول: (العقل السليم في الجسم السليم)، ولذا؛ إليك بعض الاقتراحات من أجل صحة أفضل، وتركيز أقوى:
1. إذا شعرت بالإجهاد فتوقف عما تقوم به من مهام، وخذ قسطًا من الاسترخاء، واغمض عينيك، وخذ نفسًا عميقًا عدة مرات، ثم عد لما كنت تقوم به بعد ذلك.
2. إذا كنت تشعر بالخمول، فجدد التهوية فى موقعك، وتحرك قليلًا من مكانك، أو مارس بعض التمارين الرياضية الخفيفة لبضع دقائق.
3. بادر بعلاج ما تعانيه من مشكلات صحية، وإذا كنت تعانى من مشكلة، فلا تبالغ في أمرها، ولا تعطها تفكيرًا أكبر من حجمها.
4. أعطِ نفسك قدرًا كافيًا من الراحة قبل بدء التفكير وممارسة العمل.
5. لا تبدأ التفكير في المسائل المهمة بعد تناول الطعام مباشرة، ولا أثناء الجوع الشديد والظمأ المفرط.
ثالثًا ـ تدرب على التركيز:
1. عوِّد نفسك على أن تعيش لحظتك، وأن تحصر نفسك فيما أنت فيه فقط، وحاول أن تنسى أو تتناسى كل ما عداه.
2. عد الأرقام تنازليًّا من 100 إلى واحد، واحدًا واحدًا، هكذا: 100، 99، 98، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى اثنين اثنين، هكذا: 100، 98، 96، 94، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى ثلاثة ثلاثة، هكذا: 100، 97، 94، 91، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى أربعة أربعة، هكذا: 100، 96، 92، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى خمسة خمسة، هكذا: 100، 95، 90، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى ستة ستة، هكذا: 100، 94، 88، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى سبعة سبعة، هكذا: 100، 93، 86، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى ثمانية ثمانية، هكذا: 100، 92، 84، ...إلخ.
ثم عدها مرة أخرى تسعة تسعة، هكذا: 100، 91، 82، ...إلخ.
وكرر هذا التمرين كل يوم مرة لمدة شهر على الأقل.
3. قم بالتدريب الآتي:
· ركِّز على صورة معينة لفترة طويلة نسبيًّا، ركِّز فى ألوانها، وأشكالها، وحجمها، وكل شيء فيها.
· أغمض عينيك، وحاول أن تتذكر كل شيء عن هذه الصورة.
· افتح عينيك، وانظر كم استطعت أن تحصل من تفاصيل فى ذهنك.
وختامًا:
إذًا فالنجاح والتميز في الحياة لا يتوقف فقط على القدرات العقلية الباهرة، ولا على بذل المجهود الوافر، ولكن لابد من قوة تصقل تلك القدرات وتوجه تلك المجهودات، وهذه القوة هي قوة التركيز على الأهداف، والسعي في تحقيقها في أسرع وقت وبأفضل كفاءة.
وتذكر دائمًا قول الروائي الإنجليزي الشهير تشارلز
ديكنز، وهو يصف لك روشتة نجاحه فيقول: (لم أكن أبدًا لأحقق النجاح بدون عادات الدقة والنظام والاجتهاد والتصميم على التركيز على عمل واحد كل مرة).
أهم المراجع:
1. النجاح للمبتدئين، زيج زيجلار.
2. حتى لا تكون كلًّا، د.عوض القرني.
3. قوة التركيز، د.آن ويزر كورنيل.
4. أنت عبقري ولكن كيف تنمي قدراتك، محمد فتحي.
5. قوة التركيز، جاك كانفيلد ومارك فيكتور هانسن ولس هيوت.
6. ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض.
المصدر: مفكرة الإسلام