الأدب أولا...
"]كتب العلامة الألباني ـ وربما غيره أيضا ـ كتيبا عنوانه ( التوحيد أولا ) وأنا اسمي مقالي هذا [ الأدب أولا ] إذ رغم انتشار العلم في زماننا وتعددت منافذه ووسائله من سمعي وبصري ومكتوب وصار شباب كثيرون من أبناء الصحوة ملمين بعلوم العقيدة والآيات والأحاديث وفروع الفقه إلا أن العلم الغزيراليوم لم يثمر ما ُأثمره بالأمس وسبب ذلك أن شبابنا تعلموا العلم ولم يتأدبوا ولم تزكّى نفوسهم وتزكية النفس هي الأساس قال تعالى [ إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ] ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم المزكى من طرف ربه [ وإنّك لعلى خلق عظيم ] [ اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع وعلم لا ينفع ودعوة لا يستجاب لها ]
وقد توعد المعصوم صلى الله عليه وسلم بالنار من تعلم العلم لغير وجه الله فقال :
( لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تخيروا به المجالس ، فمن فعل ذلك ، فالنار النار !! ) ابن ماجه. وهذا الذي حذّر منه الحبيب وقع بشكل رهيب . وأخرج الدارمي عن عبد الله بن مسعود قوله : ( كيف بكم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ، ويربوا فيها الصغير ويتخذها الناس سنة ، فإذا غيرت قالوا : غيرت السنة ! قالوا : ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟! قال : إذا كثر قراؤكم وقلت فقهاؤكم ، وكثرت أمراؤكم ، وقلت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة ) صدقت يا ابن مسعود يا ثمرة تربية الحبيب صلى الله عليه وسلم فكأنك ترى من وراء الحجب ما سيصيب أمة الإسلام في آخر الزمان.
وقد جاء في مقدمة التمهيد للحافظ الفقيه المالكي ابن عبد البر: قيل للإمام مالك رحمه الله بعد أن كتب كتابه الموطأ : [ شغلت نفسك بهذا الكتاب ، وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله ؟! فقال : ( لتعلمن إنه لا يرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله ) قال الراوي : فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار ، وما سمع لشيء منها بعد ذلك بذكر ].
ياشباب الاسلام لا تغتر بكثرة محفوظاتك وسماعك فالنفس أخطر عدو للمسلم إن غفل عنها ولم يؤدبها على الإخلاص والتجرد أصابها من الآفات ما يعجز غزارة العلم إزالته
، يقول الفقيه الأصولي المالكي القرافي رحمه الله تعالى في الفروق : ( واعلم أن قليل الأدب خير من كثير من العلم ، ولذلك قال رويم لابنه : يابني : اجعل عملك ملحا ، وأدبك دقيقا ، - أي استكثر من الأدب حتى تكون نسبته إلى عملك كنسبة الدقيق إلى الملح في العجين - وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من العمل مع قلة الأدب ) وقال الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده : ( علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن ، واحملهم على الأخلاق الجميلة ، وروهم الشعر يشجعوا وينجدوا ، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم ، فإنهم أحسن الناس رعة ، وأحسنهم أدبا ، وجنبهم السفلة والخدم ، فإنهم أسوأ الناس رعة وأسوأهم أدبا ، ومرهم فليستاكوا عرضا ، وليمصوا الماء مصا ، ولا يعبوه عبا ، ووقرهم في العلانية ، وذللهم في السر ، واضربهم على الكذب ، إذ الكذب يدعو إلى الفجور ، والفجور يدعو إلى النار ، وجنبهم شتم أعراض الرجال ، فإن الحر لا يجد من عرضه عوضا ، وإذا ولوا أمرا فامنعهم من ضرب الأبشار ، فإنه عار باق ، ووتر مطلوب ! واحملهم على صلة الأرحام ، واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب .) ويقول الإمام مالك رحمه الله :
كانت أمي تعممني وتقول لي ( اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه)، ويقول عبد الله بن المبارك: ( كانوا يطلبون الأدب ثم العلم ) ويقول أيضا : ( كاد الأدب يكون ثلثي العلم )
قال سفيان بن سعيد الثوري : ( ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة !) لكن في زمن التردي صار المراهق مفتيا وقاضيا يحكم على من سبقه للإيمان ونصرة الإسلام بعقود من الزمن بالفسق والضلال ولا حول ولا قوة إلا بالله ويقول أبو زكريا العنبري :
( علم بلا أدب كنار بلا حطب ، وأدب بلا علم كجسد بلا روح ) ولا شك أن الصحوة الإسلامية التي كنا ننتظر قطف ثمارها مع بداية القرن الجديد قد أصابها الصقيع وجلها صار كالصريم . حيث تصدر للفتوى والدعوة الكثير من حملة العلم الشرعي لكنهم فقراء للأدب، نفوسهم خاوية تفتقد للتزكية .
روي عن عبد الله بن المبارك أنه قال:«نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا الى كثير من العلم»، وروي الزاهد الرباني سهل بن عبد الله أنه قال:«من قهر نفسه بالأدب، فهو يعبد الله تعالى بالإخلاص»، وما أجمل ما قاله المحدث والمقرىء السلفي الجلاجلي البصري ( التوحيد موجب يوهب الإيمان، فمن لا إيمان له فلا توحيد له، والإيمان موجب يوجب الشريعة، فمن لا شريعة له فلا إيمان له ولا توحيد، والشريعة موجب يوجب الأدب، فمن لا أدب له فلا شريعة له ولا إيمان ولا توحيد) .
وقال الإمام الزاهد الفضيل بن عياض في هذا الشأن عندما قال: [ لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحبّ إليّ من أن يصحبني عابد سيئ الخلق] ويروى أن الفقيه المالكي المصري الكبير الليث بن سعد وقد أشرف على بعض أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا كرهه فقال ما هذا ؟! أنتم إلى يسير من الأدب ، أحوج منكم إلى كثير من العلم ! ) فماذا سيقول اليوم لو رأى ما يحد ث ؟ ورحم الله العلامة الخطيب البغدادي الذي آلمه ما يقع من بعض طلاب الحديث في زمانه فقال :
( وقد رأيت خلقا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث ، ويعدون أنفسهم من أهله ، المختصين بسماعه ونقله ، وهم أبعد الناس مما يدعون ، وأقلهم معرفة بما إليه ينتسبون ، يرى الواحد منهم إذا كتب عددا قليلا من الأجزاء ، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر ، أنه صاحب حديث على الإطلاق ، ولما يجهد نفسه ويتعبها في طلابه ، ولا لحقته مشقة الحفظ لصنوفه وأبوابه ...... إلى أن قال : ( وهم مع قلة كتبهم لهم وعدم معرفتهم به أعظم الناس كبرا ، وأشد الخلق تيها وعجبا ، لا يراعون لشيخ حرمة ، ولا يوجبون لطالب ذمة ، يخرقون بالراوين ، ويعنفون على المتعلمين ، خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه ، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه ! ) جزاك الله خيرا يا إمام فلو تعلم ما يحدث الآن من بعض مدّعي أتباع أهل الحديث لتمنيت لو كنت نسيًا منسيًا .
أسأل الله أن يوفقنا لتزكية نفوسنا ومجاهدتها كما أخبرنا الصادق الأمين
[ أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل ] .
قال الإمام المحقق ابن القيم : وسمعت شيخنا يعني شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : ( جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين , فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم , فمن قهر هواه عز وساد , ومن قهره هواه ذل وهان وهلك وباد ). كما قال الداعية المربي
حسن البنا رحمه الله [ نفوسكم هي الميدان الأول إن استطعتم عليها كنتم على غيرها أقدر ]
منقول للفائدة