رمضان الأخير !!
د. راغب السرجانى
كثيرًا
ما تضيع منا الأيام الأولى في رمضان؛ لأننا لم نحسن الاستعداد لها، فلا
نشعر بقيمة الصيام، ولا بحلاوة القرآن، ولا بخشوع القيام.. وهذه لحظات
غالية، وأوقات فريدة ينبغي للمسلم الفاهم أو المسلمة الواعية ألاَّ
يفرِّطوا فيها أبدًا.
د. راغب السرجانى
كثيرًا
ما تضيع منا الأيام الأولى في رمضان؛ لأننا لم نحسن الاستعداد لها، فلا
نشعر بقيمة الصيام، ولا بحلاوة القرآن، ولا بخشوع القيام.. وهذه لحظات
غالية، وأوقات فريدة ينبغي للمسلم الفاهم أو المسلمة الواعية ألاَّ
يفرِّطوا فيها أبدًا.
والمتحدثون أن يضعوا برامج في شعبان؛ لشحذ الهمم، وتنشيط الكسالى، مثل
الإكثار من الصيام وقراءة القرآن والقيام لدخول رمضان.
فلا تضيع منا دون انتباه.. وهذا -لا شك- شيء طيب.. بل رائع.. فاللاعب الذي
لا يقوم بعملية الإحماء والتدريب قبل المباراة لا يمكن أن يستمر فيها
بلياقة جيدة.
قد نغفله كثيرًا، هو الاستعداد "ذهنيًّا" لهذا الشهر الكريم.. بمعنى أن
تكون مترقبًا له، منتظرًا إياه، مشتاقًا لأيامه ولياليه.. تَعُدُّ الساعات
التي تفصل بينك وبينه، وتخشى كثيرًا ألاَّ تبلغه!
الذي يصل إليها قبل رمضان يستمتع حقيقةً بهذا الشهر الكريم.. بل ويستفيد
-مع المتعة- بكل لحظة من لحظاته.
للوصول إلى هذه الحالة الشعورية الفريدة أن تتخيل بقوَّة أن رمضان القادم
هو رمضانك الأخير في هذه الدنيا!!
لتذكُّرِه، فلم يقُلْ مثلاً: تذكروه في كل يوم مرة، أو في كل أسبوع مرة،
أو أكثر من ذلك أو أقل، ولكنه ترك الأمر لنا، نتفاوت فيه حسب درجة
إيماننا.
إلا عند رؤية الموتى، أو عيادة المرضى، أو عند المواعظ والدروس، تجد أن
عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ".
رمضان الأخير افتراض واقعي جدًّا، ومحاولة الوصول إلى هذا الإحساس هو مطلب
نبويٌّ، والمشاهدات العملية تؤكِّد هذا وترسِّخه..
معنا في رمضان السابق وهم الآن من أصحاب القبور! والموت يأتي بغتةً، ولا
يعود أحدٌ من الموت إلى الدنيا أبدًا.. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي
أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100].
الحياة، وأخذنا فرصة أخيرة لتجميل حياتنا في هذا الشهر الأخير، ولتعويض ما
فاتنا خلال العمر الطويل، ولتثقيل ميزان الحسنات، ولحسن الاستعداد للقاء
الملك الجبَّار.
إعدادنا وعملنا بإذن الله في هذا الشهر الكريم.. وليس هذا تشاؤمًا كما
يظنُّ البعض، بل إن هذه نظرة دافعة للعمل، ودافعة -في نفس الوقت- للبذل
والتضحية والعطاء والإبداع..
عسكرية كثيرة، ودانت لهم الأرض بكاملها بسبب هذه النظرة المرتقِبة للموت،
الجاهزة دومًا للقاء الله U.
الله المسلول خالد بن الوليد لزعيم الفرس هُرمز عندما وصف الجيش الإسلامي
المتَّجِه إلى بلاد فارس فقال: "جئتك برجالٍ يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة"[4]!!
يحبون الموت كل مجدٍ، وحازوا كل شرفٍ.. ومات بعضهم شهيدًا، وعاش أكثرهم
ممكَّنًا في الأرض، مالكًا للدنيا، ولكن لم تكن الدنيا أبدًا في قلوبهم..
كيف وهم يوقنون أن الموت سيكون غدًا أو بعد غدٍ؟!
فرضها الله عليَّ أبدًا، بل ولاجْتهدتُ في تجميلها وتحسينها، فلا أصلي
صلواتي إلا في المسجد، ولا ينطلق ذهني هنا وهناك أثناء الصلاة، بل أخشع
فيها تمام الخشوع، ولا أنقرها نقر الغراب، بل أطوِّل فيها، بل أستمتع
بها.. قال رسول الله : "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ"[5].
الأخير" لحرصت على الحفاظ على صيامي من أن يُنقصِه شيءٌ؛ فرُبَّ صائمٍ ليس
له من صيامه إلا الجوع والعطش..
الأخير، لحرصت على صلاة القيام في مسجد يمتِّعني فيه القارئ بآيات الله ،
فيتجول بين صفحات المصحف من أوَّله إلى آخره.. وأنا أتدبَّرُ معه
وأتفهَّم..
الطويلة إلى بيتي مشتاقًا إلى كلام ربي، فأفتح المصحف وأستزيد، وأصلي
التهجد وأستزيد، وبين الفجر والشروق أستزيد.. إنه كلام ربي.. وكان عكرمة
بن أبي جهل يفتح المصحف ويضعه فوق عينيه ويبكي، ويقول: "كلام ربي.. كلام ربي"[7].
الأخير ما تجرأت على معصية، ولا فتحت الجرائد والمجلات أبحث ملهوفًا عن
مواعيد التمثيليات والأفلام والبرامج الساقطة.. إن لحظات العمر صارت
معدودة، وليس معقولاً أن أدمِّر ما أبني، وأن أحطم ما أشيد..
بوقت ضائع، ولا بنوم طويل، فكيف أقبل بلحظات معاصي وذنوب، وخطايا وآثام؟!
إن هذا ليس من العقل في شيء.
الأخير ما كنزتُ المال لنفسي أو لورثتي، بل نظرت إلى ما ينفعني عند ربي،
ولبحثت بكل طاقتي عن فقيرٍ محتاج، أو طالب علم مسكين، أو شاب يطلب العفاف
ولا يستطيعه، أو مسلمٍ في ضائقة، أو غير ذلك من أصناف المحتاجين
والملهوفين.. ولوقفت إلى جوار هؤلاء بمالي ولو كان قليلاً، فهذا هو الذي
يبقى لي، أما الذي أحتفظ به فهو الذي يفنى!
محتلَّة.. وأفغانستان كذلك.. واضطهاد في الشيشان، وبطش في كشمير، وتفتيت
في السودان، وتدمير في الصومال.. ووحوش الأرض تنهش المسلمين.. والمسلمون
في غفلة!
بصلاتي وقيامي، هل يَقبل ربي عذري أنني نسيت رجالاً تُقتَّل، ونساءً
تُغتَصب، وأطفالاً تُشرَّد، وديارًا تُدمَّر، وأراضي تُجرَّف، وحُرمات
تُنتَهك؟!
أبو بكر الصديق أبا عبيدة بن الجراح وهو يودِّعه في رحلته الجهادية إلى
الشام.. قال أبو بكر: "يا أبا عبيدة، اعمل صالحًا، وعش مجاهدًا، ولتتوفَّ شهيدًا"[8].
على ذروة سنام الإسلام.. الجهاد في سبيل الله.. في كل ميادين الحياة..
جهاد في المعركة مع أعداء المسلمين.. وجهاد باللسان مع سلطان جائر.. وجهاد
بالقرآن مع أصحابٍ الشبهات.. وجهاد بالدعوة مع الغافلين عن دين الله..
وجهاد للنفس والهوى والشيطان.. وجهاد على الطاعة والعبادة، وجهاد عن
المعصية والشهوة.
المسلمة- كلمة "بصدق" التي ذكرها الرسول العظيم .. فالله U مطَّلعٌ على
قلوبنا، مُدرِك لنيَّاتنا، عليمٌ بأحوالنا.
الطاعة، بل نعلم أن طاعة الرحمن هي سبيلنا إلى الجنة، وأن الله لا تنفعه
طاعة، ولا تضرُّه معصية، وأننا نحن المستفيدون من عملنا وجهادنا وشهادتنا.
والجهادَ الجهاد.. والصدقَ الصدق؛ فما بقي من عمر الدنيا أقل مما ذهب
منها، والكيِّس ما دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
(1824)، والترمذي (2307)، وابن ماجه (4258)، وأحمد (7912)، وقال الألباني:
صحيح. انظر حديث رقم (1210) في صحيح الجامع.
كتاب الوصايا، باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وصية الرجل
مكتوبة عنده" (2587)، ومسلم: كتاب الوصية (1627).
كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان (38)، ومسلم: كتاب صلاة
المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (760).