حسن الانتباه في علاج الحيرة والاشتباه
الكاتب مرشد الحيالي
يكادُ يكون عصرُنا الَّذي نعيش فيه هو عصرَ الحَيْرة والتردُّد والقلق، فالحيرة ترتسِم على وجوه الجميع، ويُعاني من آثارِها وويلاتِها كثيرٌ من المسلمين، فضلاً عمَّن لا يَدين بالإسلام من الغربيِّين، والسَّاحة اليوم تعجُّ بقضايا حيَّرت عقول الساسةِ والمفكِّرين، وهي آخِذة في الازدِياد نوعًا وكمًّا، بل وحيَّرت - في بعض الأحيان، وبعض قضايا الأعْيان - علماءَ الإسلام والدين؛ لعدم توصُّلهم إلى الحقِّ الموجود، وإن كانوا مأْجورين على اجتهادِهِم، على حدِّ قوْل عُمر بن عبدالعزيز - رحِمه الله -: "يحدث للنَّاس من القضايا بقدْر ما يحدث من الذنوب"[1].
والَّذي دفعني إلى تسْطير هذا المقال، وترتيبه وتنسيقِه في الحال جملةُ أمور:
منها: أنِّي رأيتُ الحيرة والقلَقَ باديًا على الجميع، والكلّ يُعاني من آثارِه، ويشْكو من آلامه ونتائجه، كما قال الشَّاعر[2]:
والحيرة داءٌ خطير له عواقبُ مخيفة على الفرْد والمجتمع، ورغْم أهمِّيَّة الموضوع لم أرَ فيه مصنَّفًا يكشِف أحواله، ويصِف أدواءَه، ويُعين منِ ابتُلي به على الخلاص منه أو مداواتِه، وإن كان من السَّلف مَن ألَّف في ذمِّ الوسوسة[3] - للإمام التقي المقدسي، رحمه الله - ولكن في مجال العبادات كالوضوء، والصَّلاة، والتنطُّع، والغلوّ في التطهُّر والنظافة، والَّذي يؤدِّي إلى الوسوسة والاشتباه، مع يقيني أنَّ الأوَّل لم يدَع للآخِر شيئًا، وما كتبتُه وحبَّرتُه في هذه الكلِمات هو تذكِرةٌ لِمن كان له قلبٌ، أو ألْقى السَّمع وهو شهيد.
وثانيًا: ظهور بعض النَّوازل المحيرة، والمسائِل المعينة - بعضُها ليس له نظيرٌ في العهود السَّابقة - والَّتي هي من نتائِج البعد عن العِلْم والعلماء، ونور القُرآن، فأحببتُ في تلك الكلِمات، وهذه الحروف المعدودات، أنْ أوضِّح الأمور، وأكشِف ما بين السُّطور، عن بعض ما يُعين على الشِّفاء، ويرفع الغشاوة والغطاء، ومنَ اللهِ نستمدُّ العوْن والاعتناء، وهو وليُّنا في السرَّاء والضَّرَّاء.
الحيرة لغة: ومعناها: التردُّد؛ يقال: حار يَحار فهو حائر وحيران، وتحيَّر إذا تبلَّد الأمر وتردَّد فيه؛ قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].
والحائر: الموضع يتحيَّر به الماء، واستحار شبابها وهو: أن يَمتلِئ حتَّى يرى في ذاتِه حيرة، والحيرة موضع سمِّي بذلك لاجتماع ماءٍ كان فيه[4].
الحيرة مذْمومة؛ الحيرة والتردُّد واضطراب النفس والقلق: كلّها صفاتٌ لَم يمدح اللهُ بها أهل التقوى والصِّدْق والمعرفة، وأصحاب الإلهام الصَّادق، بل مدَح الله مَن كان لدينِه أطْوع، ولكتابه أسْمع، ولطاعته أسرع، ومدح انشِراح الصُّدور، ويقين النُّفوس، ومعرفة الحقائِق والدَّقائق، ورؤية الأمور، والنُّفوذ إلى بواطنِها، ومعرفة أسرارها؛ قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} [العنكبوت: 49].
وهو حال أصْحاب رسولِ الله الكِرام، وعلماء الأمَّة الأعلام، ممَّن كان ينظر أحدُهم إلى الحقِّ كرؤْيتِه للشَّمس في رابعة النَّهار، بل ينظر أحدُهم إلى كرامة الله في الآخِرة من وراء حجابِ الدُّنيا، بِحيثُ كأنَّه يشاهِدُه ويلمسه، بل ويصافِحُه أو يعانقه، وما ذاك إلاَّ من قوَّة البصيرة وانكِشاف المعلوم للقلب[5]، والحيرة والتردُّد تُمْدَح في أحوال ضيِّقة، ومسائل معيَّنة، كمن يتردَّد وهو في طريقِه لطلب العلم: أيُّهما أفضل له: دراسة هذا العلم أم ذاك؟ ومن يتردَّد عند تزاحُم الأعْمال الصَّالحة الفاضلة أو المفضولة، مثل تزاحُم إجابة المؤذِّن وردِّ السَّلام مع تلاوة القرآن، أو يَستخير الله في سفرٍ أو نَحوه عندما يُصابُ بتردُّد بين الفعل أو تركه، وأيّهما يختار، وقد ذكر العلماءُ قواعدَ عظيمةً شريفةً في هذا المجال، وخاصَّة في أعْمال القلوب عند تزاحُم الأعمال، وهي قاعدة عظيمة شريفة[6] قلَّ مَن ينتبَّه لها في زمانِنا اليوم، وهي تدلُّ على كمال اليقين، وقوَّة الإيمان، وسعادة القلْب، وامتلاء الوقْت وعمارته بطاعة الله.
الأزمات النفسيَّة سببها الحيرة:
ما يذكُره عُلماء النَّفس من أمراض نفسيَّة، منشؤُها الحيرة، وعدم الثِّقة، وفقْدان اليقين، وحرج النَّفس، والسَّبب واضحٌ وجليٌّ، فالإنسان لا يُصابُ بالقلَق إلاَّ عندما يَحار ويتردَّد بين ما يجِدُه حولَه من متغيِّرات – أي: في ثوابت الأعْمال والأقْوال والأفْعال - فينْشأ عنده الاضطِراب، وخاصَّة عند ضعاف الإيمان، فمَن يتردَّد بين الصَّبر والقناعة بالموْجود، واحتِمال المكْروه، وبيْن استِعْجال الرِّزْق ولو عن طريق الحرام، كالسَّرِقة وأكل الرِّبا وغيره، فيختار المحرَّم، وبين الاستِعْفاف إلى أن يجِدَ له مخرجًا في الزَّواج، وبين سلوك طرُق الغَواية فيختارها، وقِسْ على ذلك، فيصاب الإنسان عندها بالقلَق، وضيق النَّفس، وحرارة المعصية ونحوها، ولكن حين يسبق هذه الأمور المعرفة الحقَّة، واليقين الجازم، واطمئْنان النَّفس، ويتبعه بعمل صالح، لا تَجِد للحيرة مكانًا في النُّفوس.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
والنَّاس على مفترق طرُق، فمنهم مَن يحتار ويصِل به الحال إلى اضطِراب نفسي عظيم، وفي أحيانٍ يفضِّل الخلاص من ألَم الحيرة عن طريق الموت أو الانتحار، ومنهم مَن تأتيه أحوال يَحتار فيها لأسباب، ثمَّ يطمئنُّ ويرتاح بسبب وجودِه في إطار الجماعة، أو لسؤالِه أهلَ المعرفة والعِلْم، أو لزوال الدَّاعي للحيرة.
مظاهر الحيرة في عالمنا المعاصر:
جاء في الحديث الَّذي رواه التِّرْمذي عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله - تعالى - قال: لقد خلقتُ خلقًا ألسنتُهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبر، فبي حلفتُ لأتيحنَّهم فتنةً تدَع الحليم منهم حيرانَ، فبي يغترُّون أم عليَّ يَجترئون؟!))[7].
إنَّ ازديادًا ملحوظًا لمظاهر الحيرة ينتشِر، ومظاهر من الارتياب والتردُّد يستفحِل، رغْم توفُّر وسائل العلم والتكنولوجيا الَّتي لم يكُن العصْر الماضي يَحلم بها، والمناهج الفكريَّة اليوم تعمل جاهدةً على وقْف هذا الطوفان، وتوفير لحدِّ الأدْنى من تطْمين الكائن الحي، ولكن دون جدوى، فالأمرُ لا يتعلَّق بالمظاهر والأسباب المادِّيَّة، بل ينبُع من أعْماق النفوس، ومن نظرة الإنسان إلى الكوْن والحياة والإنسان، ومن أيِّ زاويةٍ هو ينظر؟
وقد حاول المفكِّر الغربي (ديل كارنجي)[8] الكشْفَ عن أسباب القلَق، وتوْفير العلاج المناسب له، ومن خلال عيِّنات من المجتمع الغربي، ولكن مِن وجْهة نظر مادّيَّة، فاستطاع أن يحقِّق بعض النَّجاحات المسكِّنات، فكيف لو دان بالإسلام، وعاين حقائقَه، واستعْمل أسلوبه ووسائله؟!
ومن أعْظم مظاهر الحيرة ما يلي:
أوَّلاً: فقدان المنهجيَّة والهدف من الحياة، وعندها يُصْبِح الإنسان أسيرًا لهواه، عابدًا لما تُمْلِي عليه رغباتُه، ولا يدري إلى أين يتَّجِه أو يسير، فتختلط عنده الأوراق، وتختلُّ في نظره الموازين، وعلى الرَّغْم من إيمان ملايين من المسلمين بالله - سبحانه - إلاَّ أنَّهم وقعوا في شراك الحيرة والاشتباه؛ لأن إيمان كثيرٍ منهم سطحيٌّ، ليس له أثر في تحْديد الوجه والهدف؛ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 11 - 13].
حيرة في مشاكلهم الاجتماعيَّة، وقضاياهم الماليَّة، وحلّ أزماتِهم الحاليَّة، حيرة فيمَن يتبعون من مناهج وأفكار، في ظلِّ تعدُّدِها واختلافِها وتنوُّعها، إنَّ في ديننا الحنيف من الثَّوابت الواضِحات، والجوازم اليقينيَّات، ما تكفل للإنسان أن يَسير في وضوح ودراية تامَّة، وتكفُل له السَّعادة والاطمِئْنان، وإنْ كانت تُحيط به أهوالٌ أو أزمات؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]، ومن هذه الثَّوابت: الإيمان بالأقْدار والقناعة بما كتبه الجبَّار، والإيمان بالله واليوم الآخر، والاستِعْداد ليوم الميعاد، وسيأتي مزيد تفصيل.
ثانيًا: الانخِداع بالألفاظ: ومن علامات ذلك أنَّ المرء لا يتجاوز بنظرِه إلى خلف الأستار، وبواطن الأمور، ويصدِّق بكل ما يقال ويُذاع، ويُنْشَر ويشاع، فليْس عنده من الإيمان الصَّحيح المبني على العلم ما يزِنُ به الأمور، ويفرِّق بين المتضادَّات، وهو كما ينطبق على الأفْراد وحيرتهم لكلِّ ما يعرض في الإعلام المرئي والمسموع، ينطبِق على الجماعات والأُمَم، خاصَّة مع الهجْمة الشَّرِسة التي يتعرَّض لها الإسلام من تشْويه، فلو تكلَّم اليوم مَن لا يدين بالإسلام[9] في قضايا المسلمين لصدَّقه مَن صدَّقَه من المسلمين، لقد قيل للطُّفَيل بن عمرو عن نبي الإسلام من الأقْوال والافتراءات ما جعلَه يضع في أُذنه كُرْسُفًا، فقال بعدها: "ثُمَّ غَدوْتُ إلى المسْجِدِ، فإذا بِرَسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم - قائِمًا في المسْجِدِ، فقُمْتُ قَرِيبًا مِنْه، وأبى اللهُ إلاَّ أنْ يُسْمِعَني بَعْضَ قَولِه، فقُلْتُ في نَفْسي: واللهِ، إنَّ هَذا لَلعَجْزُ، وإنِّي امْرُؤٌ ثَبْتٌ، ما تَخفَى عليَّ الأُمورُ حَسَنُها وقبِيحُها، واللهِ لأتَسَمَّعَنَّ مِنْهُ، فإنْ كَانَ أمْرُهُ رُشْدًا أخَذْتُ مِنْهُ، وإلاَّ اجْتنَبْتُه، فَنَزَعْتُ الكُرْسُفةَ، فلَمْ أسْمَعْ قَطُّ كَلامًا أحْسَنَ مِن كَلامٍ يَتكَلَّمُ بِهِ، فقُلْتُ: يا سُبْحانَ اللهِ! ما سَمِعْتُ كاليَوْمِ لَفْظًا أحْسَنَ وَلا أجْمَلَ مِنْهُ، فلَمَّا انْصَرَفَ تَبِعْتُه"[10]، فرأى في رسولِ الله مِن خُلُقِه وحديثه، ومظهَرِه وجوْهره، ودينِه وأمانتِه، وعفَّته وشهامتِه، ما جعلَه يدين بالإسْلام ويكون مِن دُعاته المخلصين، والمجاهدين في سبيل الله.
ثالثًا: النَّظر إلى الكثْرة، وهي من آثار الحيرة بل ومِن أخْطرِها، خاصَّة ممَّن يَعيشون غُرْبَةَ الزَّمان والمكان، فينظُر إلى حال النَّاس من حولِه، وليس عنده من الزَّاد الإيماني والحال الفرقاني ما يَجعله يصبِر ويثبت، فيقع في نفْس ما وقعوا فيه، ويردِّد العبارة القائلة: "حشرٌ مع النَّاس عيد"، فإن لَم يُشارِكْهم بقِي في حسرة نفسيَّة، وحيرة عقليَّة، من فوات حظِّه من الاستِمْتاع في مباهج وملذَّات الدُّنيا، أو يَجد في قلبه وحْشة وضيقًا، فليْس عنده ممَّا يتعوَّض به من ذكْرٍ أو تلاوة قرآن، أو إيمان صادق، وربَّما يؤدِّي به الحال إلى الوقوع في الفِتنة - نسأل الله السَّلامة - وهُنا يقدِّم لنا ابن القيِّم نصيحةً وهي موجَّهة لمن في عصره، ممَّن يتبع أهلَ البِدَع والأهواء، وفيها عبرة وعِظة للجميع، يقول - رحِمه الله -: "فالبصيرُ الصادق لا يستوْحِش من قلَّة الرفيق وفقْده إذا استشْعر قلبُه مرافقةَ الرَّعيل الأوَّل من الَّذين أنعمَ الله عليهِم، من النَّبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين وحسُن أُولئك رفيقًا، فتفرُّد العبد في طريق طلبه دليلٌ على صِدْق طلبه"[11].
رابعًا: الانخداع بأصْحاب الجاه والثروة.
في ظلِّ الأزمة الماليَّة، وانتِشار مظاهر الفقْر والعوز، أصبحت الأنْظار تتوجَّه إلى المظاهر وتعْمل لها الحساب، وانعدم في كثيرٍ من الأحيان الفرقان الإيماني، وأصبح مَن يستدلُّ على أنَّ مَن أعطاه الله الثَّروة والجاه والمال فهُو دليلٌ على محبَّة الله له، والعكْس هو الصَّحيح عندهم؛ قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ} [الفجر: 15 - 17].
وما قصَّة قارون الَّتي قصَّها الله عليْنا ببعيدة، فقد أصْبح النَّاس على مفترق طرق:
الأوَّل: اتَّبع قارون تصديقًا له، لما لديْه من ثروة أو جاه، والثَّاني: أعْلنَها صراحة، ولَم ينخدِع بِما انخدع فيه الفريق الأوَّل، وقالوا كما جاء في كتاب الله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} [القصص: 76، 77].
إنَّ الدُّنيا بما فيها من مباهجَ وملذَّات تَخدع مَن يميل إليها ويؤْثِرها، مع ما جُبِل عليْه الإنسان من حب العاجِلة، فيقع فريسةً للحيرة وحبائِلِها، فيترك كثيرًا من معالي الأمور التي شبَّ عليْها وتخلَّق بها، من الصدق والعمل به، والصَّراحة في القول، ومحبَّة الآخرين؛ لأجْل ما يراه من ثرْوة ومال عند أربابِها، ليتزلَّف إليْهِم، ويكسب ودَّهم، والعاقِل مَن ينظر إلى الأمور ويُوازن بفكْرٍ صافٍ، فيؤْثِر ما هو باقٍ على الفاني، وينظُر إلى ما وراء المظاهر الخدَّاعة، فيستقيم حالُه، وينصلح أمرُه، عاجلاً أم آجلاً، وتكون له العاقبةُ الحميدة في دينِه ودنياه وإن رفضَه الجميع.
وسائل نافعة في علاج الحيرة والاشتباه:
أوَّلاً: العلم والمعرِفة بمعاني الإسْلام، والعلم كما قيل سائق، والعمل به يَزيدُه رسوخًا ونورًا في النَّفس، ويكشِف له حقيقة ما يَدور حوله، على عكْس مَن يَجهل أمورَ دينِه، يُصْبِح فريسةً لأيِّ شبهة، وتعصِف بقلْبِه وعقله كما تعصِف الرياح بالريشة في الهواء، قال ابن القيم: "فإنَّ الحقَّ متى استقرَّ في القلب قوِي به وامتنع عمَّا يضرُّه ويهلكه"[12].
وممَّا يدلُّ على أهمِّيَّة العلم والمعرفة، وأثرِها من حماية المسلِم من غوائل الحيرة والاشتباه:
ما جاء في الحديث الَّذي رواه أبو سعيد الخدْري قال: حدَّثنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا حديثًا طويلاً عن الدجَّال، فكان فيما حدَّثنا قال: ((يأْتي وهو محرَّم عليه أن يدخُل نقاب المدينة، فينتهِي إلى بعض السباخ الَّتي تلي المدينة، فيخرُج إليه يومئذٍ رجُل هو خيرُ النَّاس أو من خَير النَّاس، فيقول له: أشهدُ أنَّك الدجَّال الَّذي حدَّثنا رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - حديثَه، فيقول الدجَّال: أرأيتُم إن قتلتُ هذا ثمَّ أحييْتُه، أتشكُّون في الأمر؟ فيقولون: لا، قال: فيقْتُله ثمَّ يُحييه، فيقول حينَ يُحييه: واللهِ، ما كنتُ فيك قطُّ أشدَّ بصيرةً منِّي الآن، قال: فيُريد الدجَّال أن يقتُله فلا يسلَّط عليه))[13].
ويُستفاد من الحديث جملةُ أمور، منها:
- أنَّ الدجَّال له خوارق عظيمة، وأنَّه يتبعه وينخدِع به دهماء النَّاس، ممَّن لم يتسلَّحوا بالعلم، فانطلت عليهم خوارقُه وشبهاته.
- المؤمِن لم يُصَبْ بِحيرة أو اشتباه ممَّا يراه من أشد الأمور هولاً؛ لأنَّه بنَى عِلْمَه على يقين، وهو أنَّ دعوةَ الدجَّال لا يُمكن بحالٍ أن تكون صحيحةً لمُخالفتِها أمور الإسلام.
- لم ينخدِع المؤمن بمَن حول الدجَّال من الأتباع؛ لأنَّه يعلم أنَّ دعوة الباطل لا تنقلِب إلى حقٍّ بكثرة الأتباع، وأنه يجب أن يبقى متمسِّكًا بدينِه، ولو كان وحْده متمسِّكًا بدينه على وجْه الأرض.
- أنَّ فاقد الشيءِ لا يعطيه، فلو كان الدجَّال صادقًا لأصْلح النَّقص الَّذي فيه؛ ولهذا قال له المؤمِن بقلب واثق مطمئن: "والله، ما كنت فيك أشدَّ بصيرة مني الآن"[14].
ثانيًا: من الوصايا النَّافعة عند وُرود ما يُحير العقل، ويزرع الشَّكَّ، ويولِّد الاشتِباه، ويزيد الالتباس: ما ذكرَه الإمام ابن القيِّم عن شيخه ابن تيمية، حيث يقول: "جعلتُ أُورد عليه إيرادًا بعد إيراد، فقال لي: لا تَجعل قلبَك للإيرادات والشُّبهات مثل السفنجة فيشربها، فلا ينضحْ إلاَّ بها، ولكنِ اجْعلْه كالزجاجة المصْمتة، تمرُّ الشبهات بظاهِرِها ولا تستقرُّ بها، ويدفعُها لصلابته، وإلاَّ فإذا أشربت قلبَك كلَّ شبهةٍ تمرُّ عليْك، صار مقرًّا للشبهات، أو كما قال".
ثمَّ يقول ابن القيم: "فما أعلم أنِّي انتفعت بوصية في دفْع الشبهات كانتِفاعي بذلك"[15].
ثالثًا: الجماعة رحمة، وما دام المسلِم في إطار الجماعة، وخاصَّة العلماءَ وأهل الإسْلام، فإنَّه يبقى في مأْمن من الاشتباه، والوقوع في الأخطاء، وقد جاء في الحديث: ((إنَّما يأكُل الذِّئْب من الغنم القاصية))[16]، والعُزلة والانفِراد تولِّد أنواعًا من الأفكار والخيالات الوهمية، وكلّ ما نراه من آراء شاذَّة في أمَّتنا من أفراد أو جماعات هي نتاج العزلة، ووساوس الشَّيطان، ومن هذا الباب جاءت الوصايا بلزوم جَماعة المسلمين وإمامِهم - ولاة الأمر - عند اشتِداد الفتن، وكثْرة دواعيها، والله المستعان.
رابعًا: الدُّعاء والتضرُّع إلى الله: وفي أحوال أو بلاد معيَّنة، قد لا يجِد فيها المسلم مَن لا يُعينه على الخير، ويُعينه على ما أصابه من حيرة واشتِباه، فعليْه أن يظهر فاقتَه وتضرُّعه إلى المولى، فلن يخيِّب الله من التجأَ إليه، ومنِ اشتبه عليه الأمر، وبقيتْ في نفسه بقايا من الشُّبهات، فليدعُ بِهذا الدُّعاء الَّذي رواه مسلم في صحيحِه عن عائشة - رضِي الله عنْها - قالت: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا قام من اللَّيل يقول: ((اللَّهُمَّ ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السَّموات والأرض، عالمَ الغيب والشَّهادة، أنت تَحكُم بين عبادِك فيما كانوا فيه يَختلفون، اهدني لِما اختلف فيه من الحقِّ بإذنِك، إنَّك تَهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))[17].
اللَّهُمَّ يا دليل الحيارَى دلَّنا على طريق الصَّالحين، واجعلْنا من عبادك الصادقين[18].
[1] اختلف العلماء في هذا الأثر وثبوته، ثمَّ الاستِدلال به، وممَّن ردَّه وشنَّع على قائلِه ابنُ حزم - رحمه الله - ومنهم من استدلَّ به على مشروعيَّة المصالح المرسلة كالزركشي في "البحر المحيط" في مسالة أحكام الشرع، والسيوطي تبعًا للسبكي، ووجْه الاستدلال منه في الأحكام: أنَّ العقوبة تَختلف باختِلاف حال المجرِم، ومقدار عتوِّه، واشتهاره بالفجور، وتكرُّر الجريمة منه، فمِثْل هذا يُشدَّد عليه، بخلاف مَن لم يُشتهر بفسق ولا فجور، وقد ينسحب الأثر على ما نحن بصدَده، وهو ممَّا ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحِمه الله - من أنَّ الذُّنوب سببٌ لعدم العلم بالحنيفيَّة السمحة، أو يبتلى النَّاس بمطاع يلزمهم الآصار والأغلال، انظر المجموع (ج14 - 155) و(ج11 - 384) والنبوَّات ص40.
[2] الشعر للشهرستاني، يعبِّر فيه عن حيرته، وأنَّه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلاَّ الحيرة، والشهرستاني كَانَ إمامًا في علم الكلام علَى مذهب الأشعري، وكان إمامًا في نِحل الأمم ومذاهب الفلاسفة ، وكان علَى معرفة عظيمة بأقوال الفلاسفة والنِّحَل والفرق، ولهذا ألَّف كتاب "الملل والنحل" ترجم له في مصادِر عدَّة منها، ومن هذه المصادر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي، "وفيات الأعيان" لابن خلّكان، "سير أعلام النبلاء" للذهبي، "طبقات الشَّافعيَّة الكبرى" للسبكي الابن، "طبقات الشَّافعية" للأسنوي، وغيرهم.
[3] "ذم الوسواس" للعلامة ابن قدامه المقدسي - رحمه الله - طبع مرارًا، والكتاب قد ضمَّنه ابن قيم الجوزيَّة كتابه: "إغاثة اللهفان" وطبع مفردًا في دار الكتب العلميَّة، وهو يعين المسلم للقضاء على داء الوسوسة في الصَّلاة وغيرها.
[4] مختار الصحاح للرازي، ص165 عنِي بترتيبِه السَّيد محمود خاطر، دار التراث العربي، ومفردات القرآن للأصفهاني، انظر مادة حير.
[5] حديث حارثة لمَّا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: "أصبحت مؤمنًا"، وهو في مجمع الزَّوائد (ج1 - ص57) وحديث حنظلة الأسدي لمَّا قال لأبي بكر: "نافق حنظلة"، وبين سبب ذلك بقوله: "نكون عند رسول الله يذكّرنا بالجنَّة والنَّار كأنا رأي عين"؛ رواه مسلم (ج4 - توبة/ 12 ، 13) والترمذي (ج4/ 2514).
[6] قاعدة تزاحُم المصالح، والتي يسمِّيها ابن القيّم واجب الوقت، والمراد بهذه القاعدة: إذا لم يتمكَّن العبد من فعل إحْدى المصلحَتَين إلاَّ بتفويت الأُخرى، فماذا يعمل؟ انظر مجموع ابن تيمية، من "مجموع الفتاوى" (22/ 308)، وذكرها الإمام ابن القيم في مواضع عدَّة من كتُبه مثل كتاب: "مدارج السَّالكين" ابن قيم الجوزية، الجواب الكافي، ص: 108، وملخص القاعدة: "فالأفضل في كلِّ وقت وحال: إيثار مرْضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقْت ووظيفته ومقتضاه"، ولاستأذنا أبي بكر البغدادي رسالة قيِّمة نشرت في مجلة الحِكْمة بعنوان: "تزاحُم الأحكام الشرعيَّة في الدَّعوة عند شيخ الإسلام"، عدد 7، فراجعها إن شئت.
[7] ذكرَه العلامة الألباني في ضعيف الترمذي، الصفحة أو الرقم: 2404 أو الرقم: 2405. خلاصة الدرجة: ضعيف.
[8] ديل كارنجي Dale Carnegie؛ (24 نوفمبر 1888 بالقرب من ميزوري - 1 نوفمبر 1955 في فوريست هيلز، نيويورك) كان مؤلفًا أمريكيًّا ومطوِّر الدروس المشهورة في تَحسين الذَّات، ومدير معهد كارنجي للعلاقات الإنسانية، ولد عام 1888 وتوفي في العام 1955، من أهم مؤلفاته كتاب "دع القلق وابدأ الحياة" الذي ترجم إلى العربية وانتشر بشكل واسع في العالم العربي والإسلامي.
[9] لمَّا تقلَّد أوباما مقاليد الحكم وزار القاهِرة وألقى خطابَه الشهير، اعتقد كثيرٌ من المسلمين أنَّه سيحل مشاكل الشرق الأوسط، بل ومشاكِلهم الإسلاميَّة، ويُنهي معاناة أهل الإسلام، بسبب أنَّ اسم أبيه حسين، أو أنَّه من أصل إسلامي، وإلى الله المشتكى.
[10] سيرة ابن هشام، ق1، ص382 - 384، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي.
[11] إغاثة اللهفان من مصائد الشَّيطان، لابن القيم - رحِمه الله - (ج1 - ص69) بتحقيق حامد الفقي.
[12] إغاثة اللهفان لابن القيِّم - رحِمه الله - (ج1 - ص71).
[13] البخاري في الجامع الصَّحيح، الصفحة أو الرقم: (7132) عن أبي سعيد الخدري، ومسلم في الصحيح، الصفحة أو الرقم: (2938).
[14] استفدتُ في هذه النقاط من كتاب: "أصول الدعوة" للدكتور عبدالكريم زيدان، ص310.
[15] مفتاح دار السعادة لابن القيِّم - رحِمه الله - ص221.
[16] حديث: ((ما من ثلاثةٍ في قرية ولا بدْو لا تُقام فيهم الصلاة إلاَّ قدِ استحوذ عليهم الشيطان، عليْك بالجماعة؛ فإنَّما يأكُل الذئب من الغنم القاصية))؛ انظر مجموع النووي: 4/ 182. إسناده صحيح. وتحقيق رياض الصالحين، الصفحة أو الرقم: (379) وإسناده حسن.
[17] ورُوي بغير هذا اللَّفظ في سنن أبي داود، الصفحة أو الرقم: (767).
[18] وقد علَّم الإمامُ أحمدُ إمامُ أهل السنَّة بعض أصْحابه أن يقول: "يا دليلَ الحيارى، دلَّني على طريق الصالحين"؛ ذكر ذلك شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (1/ 207) و (2/ 17)، وذكره ابنُ الجوْزي - رحِمه الله - في مناقب الإمام أحمد أيضًا.
المصدر
الكاتب مرشد الحيالي
يكادُ يكون عصرُنا الَّذي نعيش فيه هو عصرَ الحَيْرة والتردُّد والقلق، فالحيرة ترتسِم على وجوه الجميع، ويُعاني من آثارِها وويلاتِها كثيرٌ من المسلمين، فضلاً عمَّن لا يَدين بالإسلام من الغربيِّين، والسَّاحة اليوم تعجُّ بقضايا حيَّرت عقول الساسةِ والمفكِّرين، وهي آخِذة في الازدِياد نوعًا وكمًّا، بل وحيَّرت - في بعض الأحيان، وبعض قضايا الأعْيان - علماءَ الإسلام والدين؛ لعدم توصُّلهم إلى الحقِّ الموجود، وإن كانوا مأْجورين على اجتهادِهِم، على حدِّ قوْل عُمر بن عبدالعزيز - رحِمه الله -: "يحدث للنَّاس من القضايا بقدْر ما يحدث من الذنوب"[1].
والَّذي دفعني إلى تسْطير هذا المقال، وترتيبه وتنسيقِه في الحال جملةُ أمور:
منها: أنِّي رأيتُ الحيرة والقلَقَ باديًا على الجميع، والكلّ يُعاني من آثارِه، ويشْكو من آلامه ونتائجه، كما قال الشَّاعر[2]:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعَاهِدَ كُلَّهَا وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ المَعَاهِدِ فَلَمْ أَرَ إِلاَّ وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ |
والحيرة داءٌ خطير له عواقبُ مخيفة على الفرْد والمجتمع، ورغْم أهمِّيَّة الموضوع لم أرَ فيه مصنَّفًا يكشِف أحواله، ويصِف أدواءَه، ويُعين منِ ابتُلي به على الخلاص منه أو مداواتِه، وإن كان من السَّلف مَن ألَّف في ذمِّ الوسوسة[3] - للإمام التقي المقدسي، رحمه الله - ولكن في مجال العبادات كالوضوء، والصَّلاة، والتنطُّع، والغلوّ في التطهُّر والنظافة، والَّذي يؤدِّي إلى الوسوسة والاشتباه، مع يقيني أنَّ الأوَّل لم يدَع للآخِر شيئًا، وما كتبتُه وحبَّرتُه في هذه الكلِمات هو تذكِرةٌ لِمن كان له قلبٌ، أو ألْقى السَّمع وهو شهيد.
وثانيًا: ظهور بعض النَّوازل المحيرة، والمسائِل المعينة - بعضُها ليس له نظيرٌ في العهود السَّابقة - والَّتي هي من نتائِج البعد عن العِلْم والعلماء، ونور القُرآن، فأحببتُ في تلك الكلِمات، وهذه الحروف المعدودات، أنْ أوضِّح الأمور، وأكشِف ما بين السُّطور، عن بعض ما يُعين على الشِّفاء، ويرفع الغشاوة والغطاء، ومنَ اللهِ نستمدُّ العوْن والاعتناء، وهو وليُّنا في السرَّاء والضَّرَّاء.
الحيرة لغة: ومعناها: التردُّد؛ يقال: حار يَحار فهو حائر وحيران، وتحيَّر إذا تبلَّد الأمر وتردَّد فيه؛ قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].
والحائر: الموضع يتحيَّر به الماء، واستحار شبابها وهو: أن يَمتلِئ حتَّى يرى في ذاتِه حيرة، والحيرة موضع سمِّي بذلك لاجتماع ماءٍ كان فيه[4].
الحيرة مذْمومة؛ الحيرة والتردُّد واضطراب النفس والقلق: كلّها صفاتٌ لَم يمدح اللهُ بها أهل التقوى والصِّدْق والمعرفة، وأصحاب الإلهام الصَّادق، بل مدَح الله مَن كان لدينِه أطْوع، ولكتابه أسْمع، ولطاعته أسرع، ومدح انشِراح الصُّدور، ويقين النُّفوس، ومعرفة الحقائِق والدَّقائق، ورؤية الأمور، والنُّفوذ إلى بواطنِها، ومعرفة أسرارها؛ قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} [العنكبوت: 49].
وهو حال أصْحاب رسولِ الله الكِرام، وعلماء الأمَّة الأعلام، ممَّن كان ينظر أحدُهم إلى الحقِّ كرؤْيتِه للشَّمس في رابعة النَّهار، بل ينظر أحدُهم إلى كرامة الله في الآخِرة من وراء حجابِ الدُّنيا، بِحيثُ كأنَّه يشاهِدُه ويلمسه، بل ويصافِحُه أو يعانقه، وما ذاك إلاَّ من قوَّة البصيرة وانكِشاف المعلوم للقلب[5]، والحيرة والتردُّد تُمْدَح في أحوال ضيِّقة، ومسائل معيَّنة، كمن يتردَّد وهو في طريقِه لطلب العلم: أيُّهما أفضل له: دراسة هذا العلم أم ذاك؟ ومن يتردَّد عند تزاحُم الأعْمال الصَّالحة الفاضلة أو المفضولة، مثل تزاحُم إجابة المؤذِّن وردِّ السَّلام مع تلاوة القرآن، أو يَستخير الله في سفرٍ أو نَحوه عندما يُصابُ بتردُّد بين الفعل أو تركه، وأيّهما يختار، وقد ذكر العلماءُ قواعدَ عظيمةً شريفةً في هذا المجال، وخاصَّة في أعْمال القلوب عند تزاحُم الأعمال، وهي قاعدة عظيمة شريفة[6] قلَّ مَن ينتبَّه لها في زمانِنا اليوم، وهي تدلُّ على كمال اليقين، وقوَّة الإيمان، وسعادة القلْب، وامتلاء الوقْت وعمارته بطاعة الله.
الأزمات النفسيَّة سببها الحيرة:
ما يذكُره عُلماء النَّفس من أمراض نفسيَّة، منشؤُها الحيرة، وعدم الثِّقة، وفقْدان اليقين، وحرج النَّفس، والسَّبب واضحٌ وجليٌّ، فالإنسان لا يُصابُ بالقلَق إلاَّ عندما يَحار ويتردَّد بين ما يجِدُه حولَه من متغيِّرات – أي: في ثوابت الأعْمال والأقْوال والأفْعال - فينْشأ عنده الاضطِراب، وخاصَّة عند ضعاف الإيمان، فمَن يتردَّد بين الصَّبر والقناعة بالموْجود، واحتِمال المكْروه، وبيْن استِعْجال الرِّزْق ولو عن طريق الحرام، كالسَّرِقة وأكل الرِّبا وغيره، فيختار المحرَّم، وبين الاستِعْفاف إلى أن يجِدَ له مخرجًا في الزَّواج، وبين سلوك طرُق الغَواية فيختارها، وقِسْ على ذلك، فيصاب الإنسان عندها بالقلَق، وضيق النَّفس، وحرارة المعصية ونحوها، ولكن حين يسبق هذه الأمور المعرفة الحقَّة، واليقين الجازم، واطمئْنان النَّفس، ويتبعه بعمل صالح، لا تَجِد للحيرة مكانًا في النُّفوس.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
والنَّاس على مفترق طرُق، فمنهم مَن يحتار ويصِل به الحال إلى اضطِراب نفسي عظيم، وفي أحيانٍ يفضِّل الخلاص من ألَم الحيرة عن طريق الموت أو الانتحار، ومنهم مَن تأتيه أحوال يَحتار فيها لأسباب، ثمَّ يطمئنُّ ويرتاح بسبب وجودِه في إطار الجماعة، أو لسؤالِه أهلَ المعرفة والعِلْم، أو لزوال الدَّاعي للحيرة.
مظاهر الحيرة في عالمنا المعاصر:
جاء في الحديث الَّذي رواه التِّرْمذي عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله - تعالى - قال: لقد خلقتُ خلقًا ألسنتُهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبر، فبي حلفتُ لأتيحنَّهم فتنةً تدَع الحليم منهم حيرانَ، فبي يغترُّون أم عليَّ يَجترئون؟!))[7].
إنَّ ازديادًا ملحوظًا لمظاهر الحيرة ينتشِر، ومظاهر من الارتياب والتردُّد يستفحِل، رغْم توفُّر وسائل العلم والتكنولوجيا الَّتي لم يكُن العصْر الماضي يَحلم بها، والمناهج الفكريَّة اليوم تعمل جاهدةً على وقْف هذا الطوفان، وتوفير لحدِّ الأدْنى من تطْمين الكائن الحي، ولكن دون جدوى، فالأمرُ لا يتعلَّق بالمظاهر والأسباب المادِّيَّة، بل ينبُع من أعْماق النفوس، ومن نظرة الإنسان إلى الكوْن والحياة والإنسان، ومن أيِّ زاويةٍ هو ينظر؟
وقد حاول المفكِّر الغربي (ديل كارنجي)[8] الكشْفَ عن أسباب القلَق، وتوْفير العلاج المناسب له، ومن خلال عيِّنات من المجتمع الغربي، ولكن مِن وجْهة نظر مادّيَّة، فاستطاع أن يحقِّق بعض النَّجاحات المسكِّنات، فكيف لو دان بالإسلام، وعاين حقائقَه، واستعْمل أسلوبه ووسائله؟!
ومن أعْظم مظاهر الحيرة ما يلي:
أوَّلاً: فقدان المنهجيَّة والهدف من الحياة، وعندها يُصْبِح الإنسان أسيرًا لهواه، عابدًا لما تُمْلِي عليه رغباتُه، ولا يدري إلى أين يتَّجِه أو يسير، فتختلط عنده الأوراق، وتختلُّ في نظره الموازين، وعلى الرَّغْم من إيمان ملايين من المسلمين بالله - سبحانه - إلاَّ أنَّهم وقعوا في شراك الحيرة والاشتباه؛ لأن إيمان كثيرٍ منهم سطحيٌّ، ليس له أثر في تحْديد الوجه والهدف؛ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 11 - 13].
حيرة في مشاكلهم الاجتماعيَّة، وقضاياهم الماليَّة، وحلّ أزماتِهم الحاليَّة، حيرة فيمَن يتبعون من مناهج وأفكار، في ظلِّ تعدُّدِها واختلافِها وتنوُّعها، إنَّ في ديننا الحنيف من الثَّوابت الواضِحات، والجوازم اليقينيَّات، ما تكفل للإنسان أن يَسير في وضوح ودراية تامَّة، وتكفُل له السَّعادة والاطمِئْنان، وإنْ كانت تُحيط به أهوالٌ أو أزمات؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]، ومن هذه الثَّوابت: الإيمان بالأقْدار والقناعة بما كتبه الجبَّار، والإيمان بالله واليوم الآخر، والاستِعْداد ليوم الميعاد، وسيأتي مزيد تفصيل.
ثانيًا: الانخِداع بالألفاظ: ومن علامات ذلك أنَّ المرء لا يتجاوز بنظرِه إلى خلف الأستار، وبواطن الأمور، ويصدِّق بكل ما يقال ويُذاع، ويُنْشَر ويشاع، فليْس عنده من الإيمان الصَّحيح المبني على العلم ما يزِنُ به الأمور، ويفرِّق بين المتضادَّات، وهو كما ينطبق على الأفْراد وحيرتهم لكلِّ ما يعرض في الإعلام المرئي والمسموع، ينطبِق على الجماعات والأُمَم، خاصَّة مع الهجْمة الشَّرِسة التي يتعرَّض لها الإسلام من تشْويه، فلو تكلَّم اليوم مَن لا يدين بالإسلام[9] في قضايا المسلمين لصدَّقه مَن صدَّقَه من المسلمين، لقد قيل للطُّفَيل بن عمرو عن نبي الإسلام من الأقْوال والافتراءات ما جعلَه يضع في أُذنه كُرْسُفًا، فقال بعدها: "ثُمَّ غَدوْتُ إلى المسْجِدِ، فإذا بِرَسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم - قائِمًا في المسْجِدِ، فقُمْتُ قَرِيبًا مِنْه، وأبى اللهُ إلاَّ أنْ يُسْمِعَني بَعْضَ قَولِه، فقُلْتُ في نَفْسي: واللهِ، إنَّ هَذا لَلعَجْزُ، وإنِّي امْرُؤٌ ثَبْتٌ، ما تَخفَى عليَّ الأُمورُ حَسَنُها وقبِيحُها، واللهِ لأتَسَمَّعَنَّ مِنْهُ، فإنْ كَانَ أمْرُهُ رُشْدًا أخَذْتُ مِنْهُ، وإلاَّ اجْتنَبْتُه، فَنَزَعْتُ الكُرْسُفةَ، فلَمْ أسْمَعْ قَطُّ كَلامًا أحْسَنَ مِن كَلامٍ يَتكَلَّمُ بِهِ، فقُلْتُ: يا سُبْحانَ اللهِ! ما سَمِعْتُ كاليَوْمِ لَفْظًا أحْسَنَ وَلا أجْمَلَ مِنْهُ، فلَمَّا انْصَرَفَ تَبِعْتُه"[10]، فرأى في رسولِ الله مِن خُلُقِه وحديثه، ومظهَرِه وجوْهره، ودينِه وأمانتِه، وعفَّته وشهامتِه، ما جعلَه يدين بالإسْلام ويكون مِن دُعاته المخلصين، والمجاهدين في سبيل الله.
ثالثًا: النَّظر إلى الكثْرة، وهي من آثار الحيرة بل ومِن أخْطرِها، خاصَّة ممَّن يَعيشون غُرْبَةَ الزَّمان والمكان، فينظُر إلى حال النَّاس من حولِه، وليس عنده من الزَّاد الإيماني والحال الفرقاني ما يَجعله يصبِر ويثبت، فيقع في نفْس ما وقعوا فيه، ويردِّد العبارة القائلة: "حشرٌ مع النَّاس عيد"، فإن لَم يُشارِكْهم بقِي في حسرة نفسيَّة، وحيرة عقليَّة، من فوات حظِّه من الاستِمْتاع في مباهج وملذَّات الدُّنيا، أو يَجد في قلبه وحْشة وضيقًا، فليْس عنده ممَّا يتعوَّض به من ذكْرٍ أو تلاوة قرآن، أو إيمان صادق، وربَّما يؤدِّي به الحال إلى الوقوع في الفِتنة - نسأل الله السَّلامة - وهُنا يقدِّم لنا ابن القيِّم نصيحةً وهي موجَّهة لمن في عصره، ممَّن يتبع أهلَ البِدَع والأهواء، وفيها عبرة وعِظة للجميع، يقول - رحِمه الله -: "فالبصيرُ الصادق لا يستوْحِش من قلَّة الرفيق وفقْده إذا استشْعر قلبُه مرافقةَ الرَّعيل الأوَّل من الَّذين أنعمَ الله عليهِم، من النَّبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين وحسُن أُولئك رفيقًا، فتفرُّد العبد في طريق طلبه دليلٌ على صِدْق طلبه"[11].
رابعًا: الانخداع بأصْحاب الجاه والثروة.
في ظلِّ الأزمة الماليَّة، وانتِشار مظاهر الفقْر والعوز، أصبحت الأنْظار تتوجَّه إلى المظاهر وتعْمل لها الحساب، وانعدم في كثيرٍ من الأحيان الفرقان الإيماني، وأصبح مَن يستدلُّ على أنَّ مَن أعطاه الله الثَّروة والجاه والمال فهُو دليلٌ على محبَّة الله له، والعكْس هو الصَّحيح عندهم؛ قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ} [الفجر: 15 - 17].
وما قصَّة قارون الَّتي قصَّها الله عليْنا ببعيدة، فقد أصْبح النَّاس على مفترق طرق:
الأوَّل: اتَّبع قارون تصديقًا له، لما لديْه من ثروة أو جاه، والثَّاني: أعْلنَها صراحة، ولَم ينخدِع بِما انخدع فيه الفريق الأوَّل، وقالوا كما جاء في كتاب الله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} [القصص: 76، 77].
إنَّ الدُّنيا بما فيها من مباهجَ وملذَّات تَخدع مَن يميل إليها ويؤْثِرها، مع ما جُبِل عليْه الإنسان من حب العاجِلة، فيقع فريسةً للحيرة وحبائِلِها، فيترك كثيرًا من معالي الأمور التي شبَّ عليْها وتخلَّق بها، من الصدق والعمل به، والصَّراحة في القول، ومحبَّة الآخرين؛ لأجْل ما يراه من ثرْوة ومال عند أربابِها، ليتزلَّف إليْهِم، ويكسب ودَّهم، والعاقِل مَن ينظر إلى الأمور ويُوازن بفكْرٍ صافٍ، فيؤْثِر ما هو باقٍ على الفاني، وينظُر إلى ما وراء المظاهر الخدَّاعة، فيستقيم حالُه، وينصلح أمرُه، عاجلاً أم آجلاً، وتكون له العاقبةُ الحميدة في دينِه ودنياه وإن رفضَه الجميع.
وسائل نافعة في علاج الحيرة والاشتباه:
أوَّلاً: العلم والمعرِفة بمعاني الإسْلام، والعلم كما قيل سائق، والعمل به يَزيدُه رسوخًا ونورًا في النَّفس، ويكشِف له حقيقة ما يَدور حوله، على عكْس مَن يَجهل أمورَ دينِه، يُصْبِح فريسةً لأيِّ شبهة، وتعصِف بقلْبِه وعقله كما تعصِف الرياح بالريشة في الهواء، قال ابن القيم: "فإنَّ الحقَّ متى استقرَّ في القلب قوِي به وامتنع عمَّا يضرُّه ويهلكه"[12].
وممَّا يدلُّ على أهمِّيَّة العلم والمعرفة، وأثرِها من حماية المسلِم من غوائل الحيرة والاشتباه:
ما جاء في الحديث الَّذي رواه أبو سعيد الخدْري قال: حدَّثنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا حديثًا طويلاً عن الدجَّال، فكان فيما حدَّثنا قال: ((يأْتي وهو محرَّم عليه أن يدخُل نقاب المدينة، فينتهِي إلى بعض السباخ الَّتي تلي المدينة، فيخرُج إليه يومئذٍ رجُل هو خيرُ النَّاس أو من خَير النَّاس، فيقول له: أشهدُ أنَّك الدجَّال الَّذي حدَّثنا رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - حديثَه، فيقول الدجَّال: أرأيتُم إن قتلتُ هذا ثمَّ أحييْتُه، أتشكُّون في الأمر؟ فيقولون: لا، قال: فيقْتُله ثمَّ يُحييه، فيقول حينَ يُحييه: واللهِ، ما كنتُ فيك قطُّ أشدَّ بصيرةً منِّي الآن، قال: فيُريد الدجَّال أن يقتُله فلا يسلَّط عليه))[13].
ويُستفاد من الحديث جملةُ أمور، منها:
- أنَّ الدجَّال له خوارق عظيمة، وأنَّه يتبعه وينخدِع به دهماء النَّاس، ممَّن لم يتسلَّحوا بالعلم، فانطلت عليهم خوارقُه وشبهاته.
- المؤمِن لم يُصَبْ بِحيرة أو اشتباه ممَّا يراه من أشد الأمور هولاً؛ لأنَّه بنَى عِلْمَه على يقين، وهو أنَّ دعوةَ الدجَّال لا يُمكن بحالٍ أن تكون صحيحةً لمُخالفتِها أمور الإسلام.
- لم ينخدِع المؤمن بمَن حول الدجَّال من الأتباع؛ لأنَّه يعلم أنَّ دعوة الباطل لا تنقلِب إلى حقٍّ بكثرة الأتباع، وأنه يجب أن يبقى متمسِّكًا بدينِه، ولو كان وحْده متمسِّكًا بدينه على وجْه الأرض.
- أنَّ فاقد الشيءِ لا يعطيه، فلو كان الدجَّال صادقًا لأصْلح النَّقص الَّذي فيه؛ ولهذا قال له المؤمِن بقلب واثق مطمئن: "والله، ما كنت فيك أشدَّ بصيرة مني الآن"[14].
ثانيًا: من الوصايا النَّافعة عند وُرود ما يُحير العقل، ويزرع الشَّكَّ، ويولِّد الاشتِباه، ويزيد الالتباس: ما ذكرَه الإمام ابن القيِّم عن شيخه ابن تيمية، حيث يقول: "جعلتُ أُورد عليه إيرادًا بعد إيراد، فقال لي: لا تَجعل قلبَك للإيرادات والشُّبهات مثل السفنجة فيشربها، فلا ينضحْ إلاَّ بها، ولكنِ اجْعلْه كالزجاجة المصْمتة، تمرُّ الشبهات بظاهِرِها ولا تستقرُّ بها، ويدفعُها لصلابته، وإلاَّ فإذا أشربت قلبَك كلَّ شبهةٍ تمرُّ عليْك، صار مقرًّا للشبهات، أو كما قال".
ثمَّ يقول ابن القيم: "فما أعلم أنِّي انتفعت بوصية في دفْع الشبهات كانتِفاعي بذلك"[15].
ثالثًا: الجماعة رحمة، وما دام المسلِم في إطار الجماعة، وخاصَّة العلماءَ وأهل الإسْلام، فإنَّه يبقى في مأْمن من الاشتباه، والوقوع في الأخطاء، وقد جاء في الحديث: ((إنَّما يأكُل الذِّئْب من الغنم القاصية))[16]، والعُزلة والانفِراد تولِّد أنواعًا من الأفكار والخيالات الوهمية، وكلّ ما نراه من آراء شاذَّة في أمَّتنا من أفراد أو جماعات هي نتاج العزلة، ووساوس الشَّيطان، ومن هذا الباب جاءت الوصايا بلزوم جَماعة المسلمين وإمامِهم - ولاة الأمر - عند اشتِداد الفتن، وكثْرة دواعيها، والله المستعان.
رابعًا: الدُّعاء والتضرُّع إلى الله: وفي أحوال أو بلاد معيَّنة، قد لا يجِد فيها المسلم مَن لا يُعينه على الخير، ويُعينه على ما أصابه من حيرة واشتِباه، فعليْه أن يظهر فاقتَه وتضرُّعه إلى المولى، فلن يخيِّب الله من التجأَ إليه، ومنِ اشتبه عليه الأمر، وبقيتْ في نفسه بقايا من الشُّبهات، فليدعُ بِهذا الدُّعاء الَّذي رواه مسلم في صحيحِه عن عائشة - رضِي الله عنْها - قالت: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا قام من اللَّيل يقول: ((اللَّهُمَّ ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السَّموات والأرض، عالمَ الغيب والشَّهادة، أنت تَحكُم بين عبادِك فيما كانوا فيه يَختلفون، اهدني لِما اختلف فيه من الحقِّ بإذنِك، إنَّك تَهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))[17].
اللَّهُمَّ يا دليل الحيارَى دلَّنا على طريق الصَّالحين، واجعلْنا من عبادك الصادقين[18].
[1] اختلف العلماء في هذا الأثر وثبوته، ثمَّ الاستِدلال به، وممَّن ردَّه وشنَّع على قائلِه ابنُ حزم - رحمه الله - ومنهم من استدلَّ به على مشروعيَّة المصالح المرسلة كالزركشي في "البحر المحيط" في مسالة أحكام الشرع، والسيوطي تبعًا للسبكي، ووجْه الاستدلال منه في الأحكام: أنَّ العقوبة تَختلف باختِلاف حال المجرِم، ومقدار عتوِّه، واشتهاره بالفجور، وتكرُّر الجريمة منه، فمِثْل هذا يُشدَّد عليه، بخلاف مَن لم يُشتهر بفسق ولا فجور، وقد ينسحب الأثر على ما نحن بصدَده، وهو ممَّا ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحِمه الله - من أنَّ الذُّنوب سببٌ لعدم العلم بالحنيفيَّة السمحة، أو يبتلى النَّاس بمطاع يلزمهم الآصار والأغلال، انظر المجموع (ج14 - 155) و(ج11 - 384) والنبوَّات ص40.
[2] الشعر للشهرستاني، يعبِّر فيه عن حيرته، وأنَّه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلاَّ الحيرة، والشهرستاني كَانَ إمامًا في علم الكلام علَى مذهب الأشعري، وكان إمامًا في نِحل الأمم ومذاهب الفلاسفة ، وكان علَى معرفة عظيمة بأقوال الفلاسفة والنِّحَل والفرق، ولهذا ألَّف كتاب "الملل والنحل" ترجم له في مصادِر عدَّة منها، ومن هذه المصادر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي، "وفيات الأعيان" لابن خلّكان، "سير أعلام النبلاء" للذهبي، "طبقات الشَّافعيَّة الكبرى" للسبكي الابن، "طبقات الشَّافعية" للأسنوي، وغيرهم.
[3] "ذم الوسواس" للعلامة ابن قدامه المقدسي - رحمه الله - طبع مرارًا، والكتاب قد ضمَّنه ابن قيم الجوزيَّة كتابه: "إغاثة اللهفان" وطبع مفردًا في دار الكتب العلميَّة، وهو يعين المسلم للقضاء على داء الوسوسة في الصَّلاة وغيرها.
[4] مختار الصحاح للرازي، ص165 عنِي بترتيبِه السَّيد محمود خاطر، دار التراث العربي، ومفردات القرآن للأصفهاني، انظر مادة حير.
[5] حديث حارثة لمَّا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: "أصبحت مؤمنًا"، وهو في مجمع الزَّوائد (ج1 - ص57) وحديث حنظلة الأسدي لمَّا قال لأبي بكر: "نافق حنظلة"، وبين سبب ذلك بقوله: "نكون عند رسول الله يذكّرنا بالجنَّة والنَّار كأنا رأي عين"؛ رواه مسلم (ج4 - توبة/ 12 ، 13) والترمذي (ج4/ 2514).
[6] قاعدة تزاحُم المصالح، والتي يسمِّيها ابن القيّم واجب الوقت، والمراد بهذه القاعدة: إذا لم يتمكَّن العبد من فعل إحْدى المصلحَتَين إلاَّ بتفويت الأُخرى، فماذا يعمل؟ انظر مجموع ابن تيمية، من "مجموع الفتاوى" (22/ 308)، وذكرها الإمام ابن القيم في مواضع عدَّة من كتُبه مثل كتاب: "مدارج السَّالكين" ابن قيم الجوزية، الجواب الكافي، ص: 108، وملخص القاعدة: "فالأفضل في كلِّ وقت وحال: إيثار مرْضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقْت ووظيفته ومقتضاه"، ولاستأذنا أبي بكر البغدادي رسالة قيِّمة نشرت في مجلة الحِكْمة بعنوان: "تزاحُم الأحكام الشرعيَّة في الدَّعوة عند شيخ الإسلام"، عدد 7، فراجعها إن شئت.
[7] ذكرَه العلامة الألباني في ضعيف الترمذي، الصفحة أو الرقم: 2404 أو الرقم: 2405. خلاصة الدرجة: ضعيف.
[8] ديل كارنجي Dale Carnegie؛ (24 نوفمبر 1888 بالقرب من ميزوري - 1 نوفمبر 1955 في فوريست هيلز، نيويورك) كان مؤلفًا أمريكيًّا ومطوِّر الدروس المشهورة في تَحسين الذَّات، ومدير معهد كارنجي للعلاقات الإنسانية، ولد عام 1888 وتوفي في العام 1955، من أهم مؤلفاته كتاب "دع القلق وابدأ الحياة" الذي ترجم إلى العربية وانتشر بشكل واسع في العالم العربي والإسلامي.
[9] لمَّا تقلَّد أوباما مقاليد الحكم وزار القاهِرة وألقى خطابَه الشهير، اعتقد كثيرٌ من المسلمين أنَّه سيحل مشاكل الشرق الأوسط، بل ومشاكِلهم الإسلاميَّة، ويُنهي معاناة أهل الإسلام، بسبب أنَّ اسم أبيه حسين، أو أنَّه من أصل إسلامي، وإلى الله المشتكى.
[10] سيرة ابن هشام، ق1، ص382 - 384، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي.
[11] إغاثة اللهفان من مصائد الشَّيطان، لابن القيم - رحِمه الله - (ج1 - ص69) بتحقيق حامد الفقي.
[12] إغاثة اللهفان لابن القيِّم - رحِمه الله - (ج1 - ص71).
[13] البخاري في الجامع الصَّحيح، الصفحة أو الرقم: (7132) عن أبي سعيد الخدري، ومسلم في الصحيح، الصفحة أو الرقم: (2938).
[14] استفدتُ في هذه النقاط من كتاب: "أصول الدعوة" للدكتور عبدالكريم زيدان، ص310.
[15] مفتاح دار السعادة لابن القيِّم - رحِمه الله - ص221.
[16] حديث: ((ما من ثلاثةٍ في قرية ولا بدْو لا تُقام فيهم الصلاة إلاَّ قدِ استحوذ عليهم الشيطان، عليْك بالجماعة؛ فإنَّما يأكُل الذئب من الغنم القاصية))؛ انظر مجموع النووي: 4/ 182. إسناده صحيح. وتحقيق رياض الصالحين، الصفحة أو الرقم: (379) وإسناده حسن.
[17] ورُوي بغير هذا اللَّفظ في سنن أبي داود، الصفحة أو الرقم: (767).
[18] وقد علَّم الإمامُ أحمدُ إمامُ أهل السنَّة بعض أصْحابه أن يقول: "يا دليلَ الحيارى، دلَّني على طريق الصالحين"؛ ذكر ذلك شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (1/ 207) و (2/ 17)، وذكره ابنُ الجوْزي - رحِمه الله - في مناقب الإمام أحمد أيضًا.
المصدر