أكتب إليك والدموع تنهمر من عيني ويكاد التفكير يصيبني بالجنون, ولا أدري إذا كنت قد أخطأت في حق أولادي أم أن ما يفعلونه معي الآن شيء طبيعي, فانا ربة منزل أعمل في منصب اداري كبير بهيئة حكومية مرموقة.
ويعمل زوجي مهندسا في شركة قطاع خاص ويكفينا دخلنا وندخر منه جزءا تحسبا لتقلبات الزمن, ورزقنا الله بولد وبنت هما كل حياتنا ويدرسان الآن بالمرحلة الابتدائية. وتبدأ مشكلتي بعد إنجابي ابني الأول بثلاثة أشهر إذ أنني فضلت العودة إلي عملي وعدم أخذ إجازة بدون مرتب لرعاية ابني, وكان هدفي من ذلك هو ان أحافظ علي موقعي في العمل ولاتفوتني الترقية التي كنت علي وشك الحصول عليها.. وعرضت الأمر علي والدتي فرحبت جدا وأيدتني فيما ذهبت إليه, فأوكلت اليها بمسئولية ابني, ولا استطيع أن أصف لك مدي سعادتها به فلقد اصبح هو شغلها الشاغل ولم يعد في حياتها سواه, تلبي طلباته وتحمله أينما تذهب وانهمكت في عملي, وتوالت الأيام, وبعد أقل من عامين حملت في ابنتي الثانية, وتكرر السيناريو نفسه وانضمت الي شقيقها في كفالة جدتها التي تولت كل أمور حياتهما. وأصبح ابناي خارج اهتماماتي وتعلقا بجدتهما بشدة, وصارا يناديان عليها بـ ماما, أما هي فدللتهما وراحت تلبي لهما كل ما يريدان. ومنذ نحو عام أصيبت والدتي يجلطة في المخ لم يتحملها جسدها الضعيف, ورحلت عن الحياة سريعا فخيم الحزن علي الجميع وأصيب ابناي بحالة بكاء هيستيرية وانطويا علي نفسيهما ولم أحاول أن أدللهما مثلما كانت تفعل جدتهما, ولذلك يغضبان مني لأتفه الاسباب, ويذكرانني بـ أمهما الراحلة.. ففكرت في أمرهما طويلا وقررت ان اصنع معها نفس صنيع والدتي, فتركت لهما الحرية كاملة في أن يفعلا مايريدان لكن شقاوتهما فاقت كل الحدود, فراحا يكسران كل شيء يقابلهما.. ويرتفع صوتهما ليل نهار حتي انهما حولا البيت إلي جحيم لايطاق.
وفي ذكري الاربعين لوالدتي صمم ابني علي ان يزور قبر جدته, معي أنا والأسرة, ولما اعترضت علي طلبه نام علي الارض وأخذ يصرخ بشدة.. فاضطرت إلي الرضوخ لطلبه, وبعد وصولنا إلي المقابر, لاحظت انه ينظر إلي قبر جدته بطريقة غريبة, ثم نبش بطريقة لا إرادية التراب الذي يغطي مدخله وراح ينادي علي جدته ويتوسل إليها ان تعود إليه من جديد.
شيء آخر غريب لاحظته علي الولد والبنت معا, وهو أنهما لا يريدان الذهاب إلي المدرسة, ولم يعودا متفوقين كما كانا من قبل, ووجدتني أمام هول ماحدث لهما اخذت اجازة بدون مرتب وتخليت عن حلم الترقية الذي داعبني طويلا.. وظننت ان الامور سوف تتحسن بعد ذلك ولكن هيهات, ولم أجد بدا من اخذهما إلي طبيب نفسي ولما استمع إلي حكايتهما طالبني بالصبر عليهما, فهما طفلان وسوف يتغيران فيما بعد.
لقد فشلت في التعامل معهما, ولا أدري ماهو الاسلوب المناسب الذي أتبعه معهما؟ ولعل ما أحياه الآن يعد درسا لكل اب وام ألا يقعا فيما وقعت فيه, وأن يحتضنا أبناءهما منذ لحظة الولادة فهما الاساس المتين للتربية السليمة.
* لقد أخطأت ياسيدتي حينما تركت رعاية ابنيك لوالدتك وتفرغت لعملك أملا في الترقية والمنصب الكبير, فمهما فعلت الجدة لتربية أولاد ابنتها فلن تكون مثل الأم بأي حال من الأحوال, لأن الطبيعي هو أن ينشأ الأبناء في كنف أبويهما, ويعيشون حياة طبيعية معهما ماداما علي قيد الحياة.
قد أفهم أن تساعدك والدتك في الاهتمام بالأولاد إلي أن تعودي من العمل, أما أن تتركي المسئولية كلها علي عاتقها فهذا ما لايمكن قبوله لأسباب عديدة, أهمها انصراف الأبناء عنك مع ما يترتب علي ذلك من جفاء الأحساس, والمقارنة الدائمة بين والدتهم البعيدة عنهم, وأمهم الحقيقية التي تربيهم ويعيشون معها, وبالطبع فإن ذلك يوجد فجوة قد يصبح من الصعب سدها وعلاجها.
من هذا المنطلق فإن ما فعله ابنك الطفل الذي مازال في المرحلة الابتدائية أمر طبيعي جدا, ولا غرابة فيه, فعقله الباطن يرفض الاعتراف بموت أمه الحقيقية, لذلك يحاول استعادتها بأي شكل حتي ولو عن طريق نبش القبر لإخراجها منه, ومع ذلك فإن تصرفه هذا لا يقتضي عرضه علي طبيب نفسي, فالعلاج المناسب له ولأخته هو احتواؤهما والاقتراب منهما, وممارسة الطقوس نفسها التي كانت والدتك تتبعها معهما, ثم التغيير شيئا فشيئا إلي أن يعودا إلي حالتهما الطبيعية, وينخرطا معكما مثل كل الأبناء مع آبائهم.
وحسنا فعلت بأخذك إجازة بدون راتب والتفرغ لتربيتهما.
فإذا كان من حقك أن تعملي, وأن يكون لك كيانك في عملك, فإن الترقية الكبري والمنصب العظيم في رأيي هما أن تربي الأم أولادها, وأن تعمل علي استقرار بيتها وأسرتها, وهذا هو النجاح الحقيقي, ثم يأتي بعده أي هدف آخر.
إن الأم العظيمة هي التي تقدم للمجتمع أبناء ناجحين, ويكفيها فخرا هذا الصنيع الكبير, وأظنك ياسيدتي بكل ما تتمتعين به من رجاحة العقل, والقدرة علي التفكير قادرة علي أن تصنعي من أولادك رجالا ناجحين.
وأرجو أن تكون رسالتك درسا لكل الأمهات والآباء بالحرص علي تربية أبنائهم تحت سمعهم وبصرهم وفي كنفهم.. والله المستعان.
منقول للفائدة