ان الله سبحانه وتعالى بين لنا في سورة الرحمن وفي سورة الواقعة التفاوت العجيب بين الجنتين وأهلهما، والتفاوت العجيب بين المقربين وأصحاب اليمين واضح، ودرجته متباينة متفاوتة، وهذا التفاوت يقتضي من الإنسان الحرص على ألا يكون فقط من أصحاب اليمين، بل أن يكون من المقربين، وأن يزداد إيماناً ويقيناً كلما تقدم به العمر، فيحاول أن يحلي نفسه بمراتب الإيمان العالية.
وهذه المراتب منها أولاً: مقام التوبة، وهو مقام رفيع، يكون الإنسان به مخلصاً في توبته، فتكون توبته توبة نصوحة: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] .. التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112] ، فالذي يتحلى بهذه التوبة يذوق حلاوة الانتقال من مرحلة التخلية إلى مرحلة التحلية.
والتوبة ثلاث مقامات
: توبة الله على العبد، بمعنى: إرشاده وتوجيهه لأن يتوب إلى الله، وهذا شرط لعمل العبد، لأن العبد مالم ينعم الله عليه بنور التوبة، فيستمر في معصيته، لكن إذا شاء الله له النور، سلط عليه النور المشع العظيم -نور التوبة- فيراه ويتبعه فيتوب.
إذا تاب العبد وخرج من سيئه وندم عليه لقبحه شرعاً، وعزم ألا يعود إليه.
:idea : توبة الله على العبد، أي: قبول توبته.
إن هذه المراحل اثنتان من عند الله وواحدة من عند المخلوق، التوبة الأولى من عند الله، وهي توجيه العبد إلى أن يتوب، والتوبة الثانية التي تليها هي توبة العبد نفسه، والتوبة الثالثة هي توبة الله على العبد بقبول توبته، ولذلك قال الله تعالى: ولقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117] وهذا العطف بثم يقتضي المغايرة، فهي توبة جديدة: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118] والعطف كذلك بنية تكرير العامل والمعنى: وتاب على الثلاثة الذين خلفوا: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118] تاب عليهم ليتوبوا، معناه: سلط عليهم نور التوبة، وجههم إليه فاتبعوه ثم قبل منهم التوبة بعد ذلك، وهذه التوبة الأخيرة.
مقام الشكر
وبعد مقام التوبة يترقى الإنسان إلى مقام الشكر على النعم، لأنه يشهد نعم الله التي كانت مستورة عنه بذنوبه وكانت مغطاة بسوء خلقه، وبأوصافه الذميمة التي كانت يتحلى بها، فلم يكن يستشعر نعمة الله.
وشكر النعمة هو صرف جميع نعم الله في مرضاته، فالوقت نعمة من الله فيصرفه الإنسان في مرضاته، والإيمان نعمة من الله فيصرفه في مرضاته، الجوارح نعمة من الله فيصرفها في مرضاته، فيسعى حينئذ لأن تنكشف له أبواب النعم التي كانت مستورة عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، كثير من الناس حيل بينهم وبين أن يشاهدوا النعمة، فهم يعيشون فيها ولا يشاهدونها ولا يدركونها، فحينئذ لا يمكن أن يشكروها، لأنهم ما عرفوها أصلاً، بل هم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها
مقام الخوف والرجاء
وبعد مقام الشكر، يصل الإنسان إلى الخوف والرجاء فيصل إلى مستوى يعيش فيه بين خوف الله ورجائه، طيلة حياته كلها.فأنت الآن تزعم أنك تخاف الله ولكن ذلك الخوف لا يمنعك من الوقوع في المعصية، وتزعم أنك ترجو ما عند الله، ولكن ذلك الرجاء لا يمنعك من القلق والخوف من غير الله، ومعناه أنك ما تحققت بعد من مقام
فمقام الخوف والرجاء إذا وصلت إليهما، عشت بينهما، فشاهدت الأمور من عند الله لا من عند الناس، وكنت، بين هذين المقامين بحيث يأتي الوعد من الله سبحانه وتعالى على أعظم درجات الكمال، ويأتي منه الوعيد على أعظم درجات النقص، فيبقى الإنسان متردداً بين الحالين، كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:13-16] فتقول ولله الحمد: أنا لست الأشقى، ولم أكذب ولم أتول،فتبقى متردداً بين الخوف والرجاء، تعيش بينهما وتذوق حلاوة ذلك، وهذه الحلاوة إنما يذوقها من وصل إلى مقام التردد بين الخوف والرجاء، وهو أحلى مقامات العيش، وإذا كان الإنسان متردداً بين الخوف والرجاء دائماً ذاق حلاوة هذه المعاملة.
مقام التوكل على الله
مقام الرجاء والتوكل، الذي يقتضي من الإنسان أن يعلم علم اليقين أن الله لا يخلف الميعاد، وأن وعده هو الحق لا ريبة فيه، وأنه هو الذي في قبضته السماوات والأرض ومن فيهن، وهو الذي القلوب بين أصبعين من أصابعه، وهو الذي النفوس كلها في يده، ومن هنا فينظر إلى من خالفه في ذات الله نظرة المشفق الوجل، لعلمه أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتا ولا نشوراً، فينظر إليه هذه النظرة، وهذا المقام هو الذي وقف فيه نوح عليه السلام حين قال لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71] وكذلك هود عندما قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] وهذا المقام هو الذي تحلى به إبراهيم عندما رموه في النار فقال الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]فأنت اليوم تهلع وتطمع وتخاف وترجو وأنت تزعم أنك مؤمن، والسبب أنك ما وصلت إلى هذا المقام، ولهذا يذكر عن أبي الحسن الشاذلي أنه حين أتى الإسكندرية استقبله علماؤها، فسألهم فقال: أتصلون؟ قالوا سبحان الله أنترك الصلاة؟ قال: أفتهلعون وتطمعون؟ قالوا: نعم، قال: إذاً أنتم لا تصلون، فالله تعالى يقول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].والمقصود بذلك: المصلون الذين صلاتهم هي الصلاة الحقيقة الكاملة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففيها تذوق لآيات الله، وإدراك لعجائب خلقه، ومقارنة بين ما يشاهد من الآيات المنيرة وبين ما يسمع ويتدبر من الآيات المذكورة: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:105
مقام الرحمة وحسن الخلق
ثم بعد أن يصل الإنسان إلى هذه المقامات ويتحلى بها سيسعى إلى التعامل مع الناس وسيسعى إلى تحسين الخلق، بأن يصل إلى درجة يعدل فيها مع القريب والبعيد، يحسن فيها كل الإحسان حتى في حال القتل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) فهو يقاتل الكفار وهو يرحمهم، لأنه يخاف أن يموتوا على الكفر، ويجلد العصاة وهو يرحمهم، لأنه يريد بذلك رجوعهم عما حرم الله عليهم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في غاية الحرص على المأمور ليهتدي ويتوب، ولأنه يعلم أنه غير رب وغير معصوم وإنما أنجاه الله تعالى من الوقوع في هذه المعصية لطفاً ورحمة به، وابتلى بها غيره، فهو ينظر إليه على أنه مبتلى قد وقع في بلاء عظيم
تحقيق الفرائض والسنن
وهذه الأعمال التي تقتضي من الإنسان أن ترسخ قدمه ولا تزل بعد ثبوتها، فيحتاج الإنسان فيها إلى كثير من المراقبة والمتابعة، ومن أعظم هذه الأعمال الفرائض التي افترضها الله عليه، فيحافظ عليها حفاظاً شديد جدّاً؛ لعلمه أنها هي الحد الحائل بينه وبين الكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين العبد والشرك والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) وكذلك لعلمه أنها أعظم ما يتقرب به إليه: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) فهو يتصور أنه في طريق سائر إلى الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن أبلغ ما يتقرب به إليه وأنجى ما ينجيه في هذا الطريق الفرائض.
ثم بعدها يأتي بالمكملات من السنن والمندوبات: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)
الافتقار إلى الله تعالى
وهذه النوافل آثارها متفاوته جداً فيما يتعلق بالتزكية، فمن أعظم ما يقتضي التزكية ما فيه خضوع ومذلة لله، ولهذا كان كثير من العلماء يحب الفقر ويؤثره، لأنه مقتض منه للرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، والتعلق به واللجاء إليه، وكان كثير من العلماء يعدون الفقر والحاجة عيداً لأنها تقتضي اتصالهم بالله وكثرة دعائه وكثرة التعلق به فإذا وصل الإنسان إلى مقام يحب فيه ما يؤدي إلى انكساره بين يدي الله سبحانه وتعالى، وتعلقه به، ورجائه والاتصال به، فهذا هو المقام المطلوب، ومما يعين عليه السهر، لأن كثرة النوم معينة للبدن على النفس، وهي مقتضية لفساد المزاج، ولأن يكون الإنسان الذي هو كثير النوم كثير السعي إلى الراحة، وكثير الأكل والغضب، فلهذا على الإنسان أن يحاول أن يتقلل من النوم ما استطاع.
الصمت عن فضول الكلام ,كذلك الصمت إلا ذاكراً لله تعالى فهو مما يعين على الوصول إلى هذا المقام، فالإنسان الذي يكثر الكلام في غير ذكر الله، لا بد أن يقسو قلبه، وقسوة القلب منافية للتزكية التي نسعى للوصول إليها، ولذلك أخرج مالك في الموطأ، أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية) وقد أخرج مسلم في الصحيح بعض هذا الحديث من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ضرورة الصبر في درجات اليقين
فالصبر بالصمود والاستمرار على ما هو عليه والخوف من أن ينتكس: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:60-61] فهؤلاء يعملون هذه الأعمال الجليلة ولكنهم يخشون أن ترد عليهم وألا تقبل منهم، فكل عمل عملوه يخافون ألا يتقبله الله منهم وأن يرده عليهم، ومن هنا فلا يصابون بالغرور، ولا يستعظمون أعمالهم أياً كانت، ويخافون من سوء الخاتمة، ومن الحور بعد الكور، وهم بهذا على وجل من عدم القبول.أما من ركن إلى العمل، فقد وقع في جانب من جوانب الشرك وانحرف عن الجادة، وأخذ ذات الشمال عن السكة؛ لأنه ركن إلى العمل ولم يركن إلى من ألهمه هذا العمل ومن وفقه به، فيحس باتكاله على العمل ويلجأ إليه، والله تعالى يقول: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] فلذلك إذا ركن الإنسان إلى عمله وأعجب به، أو أحس بهذا العمل وأصبح يستشعره، فكثيراً ما يبتلى بالغرور، والمغرور لا يمكن أن يكون من جند الله المفلحين الذين سيبيض الله وجوههم، وستختار لهم منابر النور عن يمين الرحمن.ثم بعد ذلك إذا استطاع الإنسان التحلي بالصبر، وحاول التحلي باليقين، بأن يكون المؤمن متنوراً بنور الله، بحيث تشرق نفسه، وتتخلى عن الأغلال بالكلية، فلا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يكرهه الله، ولا يرضى إلا ما يرضاه الله سبحانه وتعالى من عباده، فتصبح جوارحه مربوطة برضا الله سبحانه وتعالى متعلقة به، وتصبح بصيرته نافذة وتصوره صحيحاً؛ لأن الذي يجعل الإنسان يتصور تصوراً خاطئاً، أو يتوهم الأمور فلا تمشي على وفق ما يريد، أو يتخيلها على وجه فتكون على خلافه، هو الاستتار بغشاء الذنوب، والاستتار بأقذار هذه الدنيا وأوساخها، فإذا تخلص الإنسان من ذلك بالكلية أضاءت بصيرته، وأصبح نوراً على نور، فيزده الله نوراً
وهذه المراتب منها أولاً: مقام التوبة، وهو مقام رفيع، يكون الإنسان به مخلصاً في توبته، فتكون توبته توبة نصوحة: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] .. التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112] ، فالذي يتحلى بهذه التوبة يذوق حلاوة الانتقال من مرحلة التخلية إلى مرحلة التحلية.
والتوبة ثلاث مقامات
: توبة الله على العبد، بمعنى: إرشاده وتوجيهه لأن يتوب إلى الله، وهذا شرط لعمل العبد، لأن العبد مالم ينعم الله عليه بنور التوبة، فيستمر في معصيته، لكن إذا شاء الله له النور، سلط عليه النور المشع العظيم -نور التوبة- فيراه ويتبعه فيتوب.
إذا تاب العبد وخرج من سيئه وندم عليه لقبحه شرعاً، وعزم ألا يعود إليه.
:idea : توبة الله على العبد، أي: قبول توبته.
إن هذه المراحل اثنتان من عند الله وواحدة من عند المخلوق، التوبة الأولى من عند الله، وهي توجيه العبد إلى أن يتوب، والتوبة الثانية التي تليها هي توبة العبد نفسه، والتوبة الثالثة هي توبة الله على العبد بقبول توبته، ولذلك قال الله تعالى: ولقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117] وهذا العطف بثم يقتضي المغايرة، فهي توبة جديدة: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118] والعطف كذلك بنية تكرير العامل والمعنى: وتاب على الثلاثة الذين خلفوا: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118] تاب عليهم ليتوبوا، معناه: سلط عليهم نور التوبة، وجههم إليه فاتبعوه ثم قبل منهم التوبة بعد ذلك، وهذه التوبة الأخيرة.
مقام الشكر
وبعد مقام التوبة يترقى الإنسان إلى مقام الشكر على النعم، لأنه يشهد نعم الله التي كانت مستورة عنه بذنوبه وكانت مغطاة بسوء خلقه، وبأوصافه الذميمة التي كانت يتحلى بها، فلم يكن يستشعر نعمة الله.
وشكر النعمة هو صرف جميع نعم الله في مرضاته، فالوقت نعمة من الله فيصرفه الإنسان في مرضاته، والإيمان نعمة من الله فيصرفه في مرضاته، الجوارح نعمة من الله فيصرفها في مرضاته، فيسعى حينئذ لأن تنكشف له أبواب النعم التي كانت مستورة عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، كثير من الناس حيل بينهم وبين أن يشاهدوا النعمة، فهم يعيشون فيها ولا يشاهدونها ولا يدركونها، فحينئذ لا يمكن أن يشكروها، لأنهم ما عرفوها أصلاً، بل هم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها
مقام الخوف والرجاء
وبعد مقام الشكر، يصل الإنسان إلى الخوف والرجاء فيصل إلى مستوى يعيش فيه بين خوف الله ورجائه، طيلة حياته كلها.فأنت الآن تزعم أنك تخاف الله ولكن ذلك الخوف لا يمنعك من الوقوع في المعصية، وتزعم أنك ترجو ما عند الله، ولكن ذلك الرجاء لا يمنعك من القلق والخوف من غير الله، ومعناه أنك ما تحققت بعد من مقام
فمقام الخوف والرجاء إذا وصلت إليهما، عشت بينهما، فشاهدت الأمور من عند الله لا من عند الناس، وكنت، بين هذين المقامين بحيث يأتي الوعد من الله سبحانه وتعالى على أعظم درجات الكمال، ويأتي منه الوعيد على أعظم درجات النقص، فيبقى الإنسان متردداً بين الحالين، كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:13-16] فتقول ولله الحمد: أنا لست الأشقى، ولم أكذب ولم أتول،فتبقى متردداً بين الخوف والرجاء، تعيش بينهما وتذوق حلاوة ذلك، وهذه الحلاوة إنما يذوقها من وصل إلى مقام التردد بين الخوف والرجاء، وهو أحلى مقامات العيش، وإذا كان الإنسان متردداً بين الخوف والرجاء دائماً ذاق حلاوة هذه المعاملة.
مقام التوكل على الله
مقام الرجاء والتوكل، الذي يقتضي من الإنسان أن يعلم علم اليقين أن الله لا يخلف الميعاد، وأن وعده هو الحق لا ريبة فيه، وأنه هو الذي في قبضته السماوات والأرض ومن فيهن، وهو الذي القلوب بين أصبعين من أصابعه، وهو الذي النفوس كلها في يده، ومن هنا فينظر إلى من خالفه في ذات الله نظرة المشفق الوجل، لعلمه أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتا ولا نشوراً، فينظر إليه هذه النظرة، وهذا المقام هو الذي وقف فيه نوح عليه السلام حين قال لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71] وكذلك هود عندما قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] وهذا المقام هو الذي تحلى به إبراهيم عندما رموه في النار فقال الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]فأنت اليوم تهلع وتطمع وتخاف وترجو وأنت تزعم أنك مؤمن، والسبب أنك ما وصلت إلى هذا المقام، ولهذا يذكر عن أبي الحسن الشاذلي أنه حين أتى الإسكندرية استقبله علماؤها، فسألهم فقال: أتصلون؟ قالوا سبحان الله أنترك الصلاة؟ قال: أفتهلعون وتطمعون؟ قالوا: نعم، قال: إذاً أنتم لا تصلون، فالله تعالى يقول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].والمقصود بذلك: المصلون الذين صلاتهم هي الصلاة الحقيقة الكاملة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففيها تذوق لآيات الله، وإدراك لعجائب خلقه، ومقارنة بين ما يشاهد من الآيات المنيرة وبين ما يسمع ويتدبر من الآيات المذكورة: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:105
مقام الرحمة وحسن الخلق
ثم بعد أن يصل الإنسان إلى هذه المقامات ويتحلى بها سيسعى إلى التعامل مع الناس وسيسعى إلى تحسين الخلق، بأن يصل إلى درجة يعدل فيها مع القريب والبعيد، يحسن فيها كل الإحسان حتى في حال القتل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) فهو يقاتل الكفار وهو يرحمهم، لأنه يخاف أن يموتوا على الكفر، ويجلد العصاة وهو يرحمهم، لأنه يريد بذلك رجوعهم عما حرم الله عليهم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في غاية الحرص على المأمور ليهتدي ويتوب، ولأنه يعلم أنه غير رب وغير معصوم وإنما أنجاه الله تعالى من الوقوع في هذه المعصية لطفاً ورحمة به، وابتلى بها غيره، فهو ينظر إليه على أنه مبتلى قد وقع في بلاء عظيم
تحقيق الفرائض والسنن
وهذه الأعمال التي تقتضي من الإنسان أن ترسخ قدمه ولا تزل بعد ثبوتها، فيحتاج الإنسان فيها إلى كثير من المراقبة والمتابعة، ومن أعظم هذه الأعمال الفرائض التي افترضها الله عليه، فيحافظ عليها حفاظاً شديد جدّاً؛ لعلمه أنها هي الحد الحائل بينه وبين الكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين العبد والشرك والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) وكذلك لعلمه أنها أعظم ما يتقرب به إليه: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) فهو يتصور أنه في طريق سائر إلى الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن أبلغ ما يتقرب به إليه وأنجى ما ينجيه في هذا الطريق الفرائض.
ثم بعدها يأتي بالمكملات من السنن والمندوبات: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)
الافتقار إلى الله تعالى
وهذه النوافل آثارها متفاوته جداً فيما يتعلق بالتزكية، فمن أعظم ما يقتضي التزكية ما فيه خضوع ومذلة لله، ولهذا كان كثير من العلماء يحب الفقر ويؤثره، لأنه مقتض منه للرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، والتعلق به واللجاء إليه، وكان كثير من العلماء يعدون الفقر والحاجة عيداً لأنها تقتضي اتصالهم بالله وكثرة دعائه وكثرة التعلق به فإذا وصل الإنسان إلى مقام يحب فيه ما يؤدي إلى انكساره بين يدي الله سبحانه وتعالى، وتعلقه به، ورجائه والاتصال به، فهذا هو المقام المطلوب، ومما يعين عليه السهر، لأن كثرة النوم معينة للبدن على النفس، وهي مقتضية لفساد المزاج، ولأن يكون الإنسان الذي هو كثير النوم كثير السعي إلى الراحة، وكثير الأكل والغضب، فلهذا على الإنسان أن يحاول أن يتقلل من النوم ما استطاع.
الصمت عن فضول الكلام ,كذلك الصمت إلا ذاكراً لله تعالى فهو مما يعين على الوصول إلى هذا المقام، فالإنسان الذي يكثر الكلام في غير ذكر الله، لا بد أن يقسو قلبه، وقسوة القلب منافية للتزكية التي نسعى للوصول إليها، ولذلك أخرج مالك في الموطأ، أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية) وقد أخرج مسلم في الصحيح بعض هذا الحديث من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ضرورة الصبر في درجات اليقين
فالصبر بالصمود والاستمرار على ما هو عليه والخوف من أن ينتكس: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:60-61] فهؤلاء يعملون هذه الأعمال الجليلة ولكنهم يخشون أن ترد عليهم وألا تقبل منهم، فكل عمل عملوه يخافون ألا يتقبله الله منهم وأن يرده عليهم، ومن هنا فلا يصابون بالغرور، ولا يستعظمون أعمالهم أياً كانت، ويخافون من سوء الخاتمة، ومن الحور بعد الكور، وهم بهذا على وجل من عدم القبول.أما من ركن إلى العمل، فقد وقع في جانب من جوانب الشرك وانحرف عن الجادة، وأخذ ذات الشمال عن السكة؛ لأنه ركن إلى العمل ولم يركن إلى من ألهمه هذا العمل ومن وفقه به، فيحس باتكاله على العمل ويلجأ إليه، والله تعالى يقول: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] فلذلك إذا ركن الإنسان إلى عمله وأعجب به، أو أحس بهذا العمل وأصبح يستشعره، فكثيراً ما يبتلى بالغرور، والمغرور لا يمكن أن يكون من جند الله المفلحين الذين سيبيض الله وجوههم، وستختار لهم منابر النور عن يمين الرحمن.ثم بعد ذلك إذا استطاع الإنسان التحلي بالصبر، وحاول التحلي باليقين، بأن يكون المؤمن متنوراً بنور الله، بحيث تشرق نفسه، وتتخلى عن الأغلال بالكلية، فلا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يكرهه الله، ولا يرضى إلا ما يرضاه الله سبحانه وتعالى من عباده، فتصبح جوارحه مربوطة برضا الله سبحانه وتعالى متعلقة به، وتصبح بصيرته نافذة وتصوره صحيحاً؛ لأن الذي يجعل الإنسان يتصور تصوراً خاطئاً، أو يتوهم الأمور فلا تمشي على وفق ما يريد، أو يتخيلها على وجه فتكون على خلافه، هو الاستتار بغشاء الذنوب، والاستتار بأقذار هذه الدنيا وأوساخها، فإذا تخلص الإنسان من ذلك بالكلية أضاءت بصيرته، وأصبح نوراً على نور، فيزده الله نوراً