تظل القيم والمثل العليا مجرد حقائق مجردة ، لا تأثير لها و لا فائدة ، حتى تتحول إلى نموذج عملي في حياة البشر ، فتؤثر في تصرفاتهم ، وسلوكياتهم ، وعاداتهم وتقاليدهم . وتبقى المناهج التربوية مجرد حبر على ورق ، وكلمات لا روح فيها ، و لا تشغل حيِّزا سوى المساحة التي احتلتها مما كتبت فيه .
حتى يطبقها الناس في حياتهم ، ويتخلقون بها .
وتتحول إلى نموذج عملي يكون على أرض الواقع .
ورحم الله صاحب الظلال فقد قال " ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة " وهل نموت من أجل كلمات لم نعش لها ؟ ولم نتخلق بها ؟ ولم تتحول إلى واقع في حياتنا ؟ ! وقد قالوا قديما : " عمل رجل في ألف رجل ، خير من قول ألف رجل في رجل " .
ومن هنا تنبع أهمية الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه ، ألا وهو القدوة .
فما تعريفها ؟ وما النماذج العملية لها من حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم ؟ ولماذا القدوة ؟ ثم بعض الوسائل التي تساعدك على أن تصبح قدوة ؟ القيادة والقدوة ؟
القيادة لغة : مأخوذة من ( قود ) ، القَوْدُ نقيض السَّوْق يَقُودُ الدابَّة من أَمامِها ويَسُوقُها من خَلْفِها ، فالقَوْدُ من أَمام والسَّوْقُ من خَلْف(1) .
والقيادة في الاصطلاح هي : عملية تحريك الناس نحو الهدف لتحقيقه .
وبالتالي فلا بد للقائد أن يكون قدوة ، لكي يسعى بأفراده ، ومرؤوسيه نحو الهدف ، وإلا كانت أقواله في طريق ، وأفعاله في طريق آخر .
وكانت أقواله تبني ، وأفعاله تهدم .
لأنه لا قيمة لكلمات ميتة لا حراك فيها ولا تأثير .
وما أجمل ما قيل في ذلك : " إذا أردت أن تكون إمامي فكن أمامي "
والقدوة لغة : مأخوذة من ( قدا ) القَدْوُ أَصل البناء الذي يَتَشَعَّبُ منه تصريف الاقتداء يقال قِدْوةٌ وقُدْوةٌ لما يُقْتَدى به .
و القَدْوةُ التقَدُّمُ يقال فلان لا يُقاديه أَحد ولا يُماديه أَحد ولا يُباريه أَحد ولا يُجاريه أَحد وذلك إِذا بَرَّز في الخِلال كلها(2) .
القدوة في الاصطلاح: قال المناوي: القدوة هي الاقتداء بالغير ومتابعته والتأسي به.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: الأسوة كالقدوة، وهي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة .
القدوة في القرآن الكريم لقد أمر الله – تعالى – رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالاقتداء بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين فقال تعالى : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )(3) .
ولقد حذر الله تبارك وتعالى من مخالفة أقوال الناس لأفعالهم ، فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (4) "وهما- أي الآيتان - بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم . . الصدق . . والاستقامة .
وأن يكون باطنه كظاهره , وأن يطابق فعله قوله . . إطلاقا "(5) نماذج من قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالقدوة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم – كلها مليئة بالقدوة ، وكذلك أفعاله وأقواله - صلى الله عليه وسلم – ولكني هنا أقتبس بعضا من النماذج من سيرته - صلى الله عليه وسلم – ليتضح الكلام للقارئ ، ولتكون دليلا على أهمية القيادة بالقدوة ، ولو كانت الأقوال والكلمات فقط تكفي في القيادة لكان النبي - صلى الله عليه وسلم – أولى بها .
1) تأثير الفعل أقوى من تأثير القول : لما صدَّ المشركون الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه عن البيت الحرام، حين أرادوا العمرة عام الحديبية، وبعد إبرام الصلح مع قريش ( فَلَمّا فَرَغَ مِنْ قَضِيّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمّ احْلِقُوا فَوَاَللّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ حَتّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَلَمّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَة َ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النّاسِ فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُحِبّ ذَلِكَ ؟ اُخْرُجْ ثُمّ لَا تُكَلّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتّى تَنْحَرَ بُدْنَك وَتَدْعُوَ حَالِقَك فَيَحْلِقَكَ فَقَامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمّا رَأَى النّاسُ ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمّا(6)) ".
" ففي هذه القصة دلالة ظاهرة على التفاوت الكبير بين تأثير القول وتأثير الفعل؛ ففي حين لم يتغلب القولُ على هموم الصحابة وتألُّمِهم مما حدث؛ فلم ينصاعوا للأمر؛ نجدهم بادروا إلى التنفيذ؛ اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين تحوَّل أمرُهُ القَولي إلى تطبيقٍ عمليٍّ؛ حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً(7)" .
2) تغليب الجانب العملي على الكلام : أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: اتخذ رسول الله ( خاتمًا من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، ثم نبذه النبي وقال: إني لن ألبسه أبدًا ، فنبذ الناس خواتيمهم)(.
فلم يحدثهم النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأمر ، لعلمه أن مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت ، ولكن الجميع متساوون أمام الرؤية بالعين ولذا قام بالفعل أمامهم ، فما كان منهم إلا الامتثال والاقتداء بفعله – صلى الله عليه وسلم - .
3) آمن بسبب القدوة : قال ملك عمان وقد التقى النبيَّ العدنان:" والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه كان لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد"(9).
وهناك الكثير من النماذج العملية في السيرة النبوية ، التي توضح أهمية القدوة ، غير أن الأمر هنا ليس الهدف منه استقصاء تلك النماذج المباركة ، لأن ذلك يحتاج إلى كتب ومجلدات .
وإنما الغرض من ذكر تلك النماذج هو أخذ العبر والعظات . السلف الصالح والقدوة - مثل يحتذى : عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يجعل من سلوكه ومواقفه مثلاً أعلى يُحتذى، فكان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصته وقال لهم:" إني أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايمُ الله لا أوتين بواحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانته مني" .
- يضحي بنفسه حفاظا على الأمة : يروى أن أبا جعفر الأنباري صاحب الِإمام أحمد عندما أُخبر بحمل الإِمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة.
عبر الفرات إليه فإذا هو جالس في الخان، فسلم عليه، وقال: يا هذا أنت اليوم رأسٌ والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليجيبنَّ بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعنَّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل- يعني المأمون - إن لم يقتلك فأنت تموت، ولا بد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء.
فجعل أحمد يبكي ويقول: ما قلت؟ فأعاد عليه فجعل يقول: ما شاء الله، ما شاء الله.
وتمر الأيام عصيبة على الِإمام أحمد، ويمتحن فيها أشدّ الامتحان ولم ينس نصيحة الأنباري، فها هو المروزي أحد أصحابه يدخل عليه أيام المحنة ويقول له: "يا أستاذ قال الله تعالى: ( و لا تقتلوا أنفسكم ) فقال أحمد: يا مروزي اخرج، انظر أي شيء ترى ! قال: فخرجتُ إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقًا من الناس لا يحصي عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي: مكانكم.
فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له: رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال: يا مروزي أضل هؤلاء كلهم ! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء"(10).
لماذا القدوة ؟ لا يخلو كتاب في التربية من إيراد القدوة كإحدى الوسائل المهمة لفعاليتها، ففي دراسة أجريت على 446 شاباً و 94 فتاةً تبين أن 75% يرون أن وجود القدوة مهم جداً.
وهي من أكثر الوسائل تأثيراً، وهذا لا شك يعود إلى رؤية الناس للنموذج الواقعي الذي يشاهدونه، وبدون هذا التطبيق الواقعي تكون التوجيهات كتابة على الماء لا أثر لها في قلوب المتلقين وعقولهم(11) .
كما أن الدراسات تشير إلى أنه خلال أي اتصال بين الناس فإن : 55% من الاتصال يكون بلغة الجسم .
38% من الاتصال يكون بلحن الخطاب .
7% من الاتصال يكون بالكلمات المستخدمة .
يقول سيد قطب- رحمه الله " الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم لأنهم يسمعون قولاً جميلاً ويشهدون فعلاً قبيحاً فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم - برجال الدين(12)" .
ويقول ابن القيم رحمة الله " علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم, فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا ! قالت أفعالهم : لا تسمعوا منهم ! فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له ! فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطّاع الطريق(13)" .
من النصوص السابقة تتضح لنا أهمية القدوة لأن : " عيون الأفراد والمرؤوسين متعلقة بالقائد والمربي ، ولذلك أرشد الإمام الشافعي مؤدِّب أولاد هارون الرشيد فقال: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك، فإن أعنّتهم معقودة بيدك، فالحسن عندهم ما استحسنته، والقبيح عندهم ما تركته" وتأمل قول الشافعي " القبيح عندهم ما تركته " ولم يقل له : القبيح عندهم ما قلت إنه قبيح !! " الأعمال أفصح من الأقوال ، وأبقى أثرا في النفوس ولذا قال ابن الجوزي في كتابه " صيد الخاطر " : " الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول " .
" ثقة الأفراد والمرؤوسين في القائد والمربي تكون نتيجة اتصافه بالقدوة ، فالقائد والمربي الذي يعطي المثل الصالح من نفسه لمرؤوسيه يستطيع دوما أن يكسب ثقتهم ؛ لأن مسيرة حياته أبقى من صوته وقوله ، فليس القائد من يقول ، وإنما القائد من يفعل ويعمل .
" النموذج العملي للأخلاق والقيم والمثل العليا يشيع في النفس إمكانية تطبيقها على أرض الواقع ، كما يثير في نفوس الأفراد والمرؤوسين التنافس في محاولة تليد ذلك النموذج والاقتداء به . وقد نُقل عن إبراهيم ابن أدهم أنه قال يوماً لأصحابه: ادعوا الناس وأنتم صامتون قالوا: كيف ذلك؟ قال: ادعوا الناس بأفعالكم .
" القدوة من أقوى الأساليب تأثيرا في تعديل وتغيير سلوك الناس ، ويستطيع كل إنسان أن يحققها في نفسه ، إذا توافرت لديه الهمة العالية ، والعزيمة الصادقة ، والإرادة القوية ، كما أنها لا يحدها زمان ولا مكان ، فهي تظهر في جميع أفعال الإنسان وأقواله ، وحركاته وسكناته .
وما أجمل ما قال الشافعي : " من وعظ أخاه بفعله كان هاديا " .
ولقد قال مصطفى صادق الرافعي " الأسوة وحدها هي علم الحياة " .
بعض الوسائل التي تساعدك على أن تصبح قدوة " جدد من نيتك دائما ، وأصلح من شأنها ، لأنه متى صحت النية وجب الثواب العظيم قال الحسن البصري : " من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله، إماما لحيه، إماماً لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب " .
" الدعاء بأن يجعلك الله قدوة للناس ، فمن دعاء الصالحين (واجعلنا للمتقين إماما ) .
قال البخاري: أي أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا .
" المداومة على العبادة والإكثار منها ، ولا سيما عبادات الخلوة من صيام وقيام ، فما أحسن قول الإمام البنا : " كونوا عبّادًا قبل أن تكونوا قوّادًا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة".
" قدم العمل على القول ، وما أجمل مقولة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – " رحم الله امرأ أمسك فضل القول ، وقدم فضل العمل"(14) .
" طالع واقرأ دائما في سير العلماء العاملين بعلمهم ، ومن سبقك من القادة ، لأن ذلك يحيي في النفس الهمة .
" خذ نفسك بالعزيمة ، وابتعد عن الرخص ، لما هَمَّ إمام مصر- الليث بن سعد - رحمه الله- بفعل مفضول ينافي العزيمة، قال له إمام المدينة - يحيى بن سعيد الأنصاري-: "لا تفعل، فإنك إمام منظورٌ إليك"(15).
" ليكن طموحك و همك أن تسبق الناس دائما إلى الخير ، وأن تكون دليلا لهم عليه.
وفي الختام كلمة لا يخفى على أي إنسان يعيش في عصرنا ، ويرى واقعنا ، ويشاهد إعلامنا ، أننا نعيش أزمة غياب القدوة الحسنة ، والتي تأخذ بأيدي الناس إلى الخير ، قدوة تقدم البذل الصامت على الكلام البراق ، وينبع الصدق من فعلها ، قبل كلامها ، ورحم الله صاحب الظلال ، فلقد قال : " إن الكلمة لتنبعث ميتة , وتصل هامدة , مهما تكن طنانة رنانة متحمسة , إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها .
ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول , وتجسيما واقعيا لما ينطق . . عندئذ يؤمن الناس , ويثق الناس , ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق . . إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها . . إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة , لأنها منبثقة من حياة "(16) .
حتى يطبقها الناس في حياتهم ، ويتخلقون بها .
وتتحول إلى نموذج عملي يكون على أرض الواقع .
ورحم الله صاحب الظلال فقد قال " ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة " وهل نموت من أجل كلمات لم نعش لها ؟ ولم نتخلق بها ؟ ولم تتحول إلى واقع في حياتنا ؟ ! وقد قالوا قديما : " عمل رجل في ألف رجل ، خير من قول ألف رجل في رجل " .
ومن هنا تنبع أهمية الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه ، ألا وهو القدوة .
فما تعريفها ؟ وما النماذج العملية لها من حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم ؟ ولماذا القدوة ؟ ثم بعض الوسائل التي تساعدك على أن تصبح قدوة ؟ القيادة والقدوة ؟
القيادة لغة : مأخوذة من ( قود ) ، القَوْدُ نقيض السَّوْق يَقُودُ الدابَّة من أَمامِها ويَسُوقُها من خَلْفِها ، فالقَوْدُ من أَمام والسَّوْقُ من خَلْف(1) .
والقيادة في الاصطلاح هي : عملية تحريك الناس نحو الهدف لتحقيقه .
وبالتالي فلا بد للقائد أن يكون قدوة ، لكي يسعى بأفراده ، ومرؤوسيه نحو الهدف ، وإلا كانت أقواله في طريق ، وأفعاله في طريق آخر .
وكانت أقواله تبني ، وأفعاله تهدم .
لأنه لا قيمة لكلمات ميتة لا حراك فيها ولا تأثير .
وما أجمل ما قيل في ذلك : " إذا أردت أن تكون إمامي فكن أمامي "
والقدوة لغة : مأخوذة من ( قدا ) القَدْوُ أَصل البناء الذي يَتَشَعَّبُ منه تصريف الاقتداء يقال قِدْوةٌ وقُدْوةٌ لما يُقْتَدى به .
و القَدْوةُ التقَدُّمُ يقال فلان لا يُقاديه أَحد ولا يُماديه أَحد ولا يُباريه أَحد ولا يُجاريه أَحد وذلك إِذا بَرَّز في الخِلال كلها(2) .
القدوة في الاصطلاح: قال المناوي: القدوة هي الاقتداء بالغير ومتابعته والتأسي به.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: الأسوة كالقدوة، وهي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة .
القدوة في القرآن الكريم لقد أمر الله – تعالى – رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالاقتداء بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين فقال تعالى : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )(3) .
ولقد حذر الله تبارك وتعالى من مخالفة أقوال الناس لأفعالهم ، فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (4) "وهما- أي الآيتان - بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم . . الصدق . . والاستقامة .
وأن يكون باطنه كظاهره , وأن يطابق فعله قوله . . إطلاقا "(5) نماذج من قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالقدوة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم – كلها مليئة بالقدوة ، وكذلك أفعاله وأقواله - صلى الله عليه وسلم – ولكني هنا أقتبس بعضا من النماذج من سيرته - صلى الله عليه وسلم – ليتضح الكلام للقارئ ، ولتكون دليلا على أهمية القيادة بالقدوة ، ولو كانت الأقوال والكلمات فقط تكفي في القيادة لكان النبي - صلى الله عليه وسلم – أولى بها .
1) تأثير الفعل أقوى من تأثير القول : لما صدَّ المشركون الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه عن البيت الحرام، حين أرادوا العمرة عام الحديبية، وبعد إبرام الصلح مع قريش ( فَلَمّا فَرَغَ مِنْ قَضِيّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمّ احْلِقُوا فَوَاَللّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ حَتّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَلَمّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَة َ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النّاسِ فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُحِبّ ذَلِكَ ؟ اُخْرُجْ ثُمّ لَا تُكَلّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتّى تَنْحَرَ بُدْنَك وَتَدْعُوَ حَالِقَك فَيَحْلِقَكَ فَقَامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمّا رَأَى النّاسُ ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمّا(6)) ".
" ففي هذه القصة دلالة ظاهرة على التفاوت الكبير بين تأثير القول وتأثير الفعل؛ ففي حين لم يتغلب القولُ على هموم الصحابة وتألُّمِهم مما حدث؛ فلم ينصاعوا للأمر؛ نجدهم بادروا إلى التنفيذ؛ اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين تحوَّل أمرُهُ القَولي إلى تطبيقٍ عمليٍّ؛ حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً(7)" .
2) تغليب الجانب العملي على الكلام : أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: اتخذ رسول الله ( خاتمًا من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، ثم نبذه النبي وقال: إني لن ألبسه أبدًا ، فنبذ الناس خواتيمهم)(.
فلم يحدثهم النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأمر ، لعلمه أن مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت ، ولكن الجميع متساوون أمام الرؤية بالعين ولذا قام بالفعل أمامهم ، فما كان منهم إلا الامتثال والاقتداء بفعله – صلى الله عليه وسلم - .
3) آمن بسبب القدوة : قال ملك عمان وقد التقى النبيَّ العدنان:" والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه كان لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد"(9).
وهناك الكثير من النماذج العملية في السيرة النبوية ، التي توضح أهمية القدوة ، غير أن الأمر هنا ليس الهدف منه استقصاء تلك النماذج المباركة ، لأن ذلك يحتاج إلى كتب ومجلدات .
وإنما الغرض من ذكر تلك النماذج هو أخذ العبر والعظات . السلف الصالح والقدوة - مثل يحتذى : عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يجعل من سلوكه ومواقفه مثلاً أعلى يُحتذى، فكان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصته وقال لهم:" إني أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايمُ الله لا أوتين بواحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانته مني" .
- يضحي بنفسه حفاظا على الأمة : يروى أن أبا جعفر الأنباري صاحب الِإمام أحمد عندما أُخبر بحمل الإِمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة.
عبر الفرات إليه فإذا هو جالس في الخان، فسلم عليه، وقال: يا هذا أنت اليوم رأسٌ والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليجيبنَّ بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعنَّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل- يعني المأمون - إن لم يقتلك فأنت تموت، ولا بد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء.
فجعل أحمد يبكي ويقول: ما قلت؟ فأعاد عليه فجعل يقول: ما شاء الله، ما شاء الله.
وتمر الأيام عصيبة على الِإمام أحمد، ويمتحن فيها أشدّ الامتحان ولم ينس نصيحة الأنباري، فها هو المروزي أحد أصحابه يدخل عليه أيام المحنة ويقول له: "يا أستاذ قال الله تعالى: ( و لا تقتلوا أنفسكم ) فقال أحمد: يا مروزي اخرج، انظر أي شيء ترى ! قال: فخرجتُ إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقًا من الناس لا يحصي عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي: مكانكم.
فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له: رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال: يا مروزي أضل هؤلاء كلهم ! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء"(10).
لماذا القدوة ؟ لا يخلو كتاب في التربية من إيراد القدوة كإحدى الوسائل المهمة لفعاليتها، ففي دراسة أجريت على 446 شاباً و 94 فتاةً تبين أن 75% يرون أن وجود القدوة مهم جداً.
وهي من أكثر الوسائل تأثيراً، وهذا لا شك يعود إلى رؤية الناس للنموذج الواقعي الذي يشاهدونه، وبدون هذا التطبيق الواقعي تكون التوجيهات كتابة على الماء لا أثر لها في قلوب المتلقين وعقولهم(11) .
كما أن الدراسات تشير إلى أنه خلال أي اتصال بين الناس فإن : 55% من الاتصال يكون بلغة الجسم .
38% من الاتصال يكون بلحن الخطاب .
7% من الاتصال يكون بالكلمات المستخدمة .
يقول سيد قطب- رحمه الله " الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم لأنهم يسمعون قولاً جميلاً ويشهدون فعلاً قبيحاً فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم - برجال الدين(12)" .
ويقول ابن القيم رحمة الله " علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم, فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا ! قالت أفعالهم : لا تسمعوا منهم ! فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له ! فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطّاع الطريق(13)" .
من النصوص السابقة تتضح لنا أهمية القدوة لأن : " عيون الأفراد والمرؤوسين متعلقة بالقائد والمربي ، ولذلك أرشد الإمام الشافعي مؤدِّب أولاد هارون الرشيد فقال: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك، فإن أعنّتهم معقودة بيدك، فالحسن عندهم ما استحسنته، والقبيح عندهم ما تركته" وتأمل قول الشافعي " القبيح عندهم ما تركته " ولم يقل له : القبيح عندهم ما قلت إنه قبيح !! " الأعمال أفصح من الأقوال ، وأبقى أثرا في النفوس ولذا قال ابن الجوزي في كتابه " صيد الخاطر " : " الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول " .
" ثقة الأفراد والمرؤوسين في القائد والمربي تكون نتيجة اتصافه بالقدوة ، فالقائد والمربي الذي يعطي المثل الصالح من نفسه لمرؤوسيه يستطيع دوما أن يكسب ثقتهم ؛ لأن مسيرة حياته أبقى من صوته وقوله ، فليس القائد من يقول ، وإنما القائد من يفعل ويعمل .
" النموذج العملي للأخلاق والقيم والمثل العليا يشيع في النفس إمكانية تطبيقها على أرض الواقع ، كما يثير في نفوس الأفراد والمرؤوسين التنافس في محاولة تليد ذلك النموذج والاقتداء به . وقد نُقل عن إبراهيم ابن أدهم أنه قال يوماً لأصحابه: ادعوا الناس وأنتم صامتون قالوا: كيف ذلك؟ قال: ادعوا الناس بأفعالكم .
" القدوة من أقوى الأساليب تأثيرا في تعديل وتغيير سلوك الناس ، ويستطيع كل إنسان أن يحققها في نفسه ، إذا توافرت لديه الهمة العالية ، والعزيمة الصادقة ، والإرادة القوية ، كما أنها لا يحدها زمان ولا مكان ، فهي تظهر في جميع أفعال الإنسان وأقواله ، وحركاته وسكناته .
وما أجمل ما قال الشافعي : " من وعظ أخاه بفعله كان هاديا " .
ولقد قال مصطفى صادق الرافعي " الأسوة وحدها هي علم الحياة " .
بعض الوسائل التي تساعدك على أن تصبح قدوة " جدد من نيتك دائما ، وأصلح من شأنها ، لأنه متى صحت النية وجب الثواب العظيم قال الحسن البصري : " من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله، إماما لحيه، إماماً لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب " .
" الدعاء بأن يجعلك الله قدوة للناس ، فمن دعاء الصالحين (واجعلنا للمتقين إماما ) .
قال البخاري: أي أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا .
" المداومة على العبادة والإكثار منها ، ولا سيما عبادات الخلوة من صيام وقيام ، فما أحسن قول الإمام البنا : " كونوا عبّادًا قبل أن تكونوا قوّادًا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة".
" قدم العمل على القول ، وما أجمل مقولة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – " رحم الله امرأ أمسك فضل القول ، وقدم فضل العمل"(14) .
" طالع واقرأ دائما في سير العلماء العاملين بعلمهم ، ومن سبقك من القادة ، لأن ذلك يحيي في النفس الهمة .
" خذ نفسك بالعزيمة ، وابتعد عن الرخص ، لما هَمَّ إمام مصر- الليث بن سعد - رحمه الله- بفعل مفضول ينافي العزيمة، قال له إمام المدينة - يحيى بن سعيد الأنصاري-: "لا تفعل، فإنك إمام منظورٌ إليك"(15).
" ليكن طموحك و همك أن تسبق الناس دائما إلى الخير ، وأن تكون دليلا لهم عليه.
وفي الختام كلمة لا يخفى على أي إنسان يعيش في عصرنا ، ويرى واقعنا ، ويشاهد إعلامنا ، أننا نعيش أزمة غياب القدوة الحسنة ، والتي تأخذ بأيدي الناس إلى الخير ، قدوة تقدم البذل الصامت على الكلام البراق ، وينبع الصدق من فعلها ، قبل كلامها ، ورحم الله صاحب الظلال ، فلقد قال : " إن الكلمة لتنبعث ميتة , وتصل هامدة , مهما تكن طنانة رنانة متحمسة , إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها .
ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول , وتجسيما واقعيا لما ينطق . . عندئذ يؤمن الناس , ويثق الناس , ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق . . إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها . . إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة , لأنها منبثقة من حياة "(16) .
------------------------