مع خصال امرأة زكاها القرآن
كثيرا ما يبقى تنادي المسلمين بالرجوع إلى القرآن والسنة مجرد
شعار عاطفي بعيد عن التجسيد،ولعل موضوع المرأة أدل تعبير على هذه الملاحظة،إذ لم
يمنعنا الشعار المرفوع من التشبث بالعادات الأسرية الدخيلة وتحكيم التقاليد
الاجتماعية الخانقة في التعامل مع المرأة المسلمة ونسبة تلك العادات والتقاليد إلى
الدين الحنيف،ولو كان الرجوع إلى القرآن والسنة فعليا وصادقا لأحالنا على أنماط
وأنساق في غاية الرفعة والجمال والتحضر،والمتأمل في قصة سبإ الواردة في سورة
النمل-على سبيل المثال-يقف على عبر ودروس بليغة لم ترد جزافا وإنما هي معالم تربوية
وإيحاءات معبرة تدل على ما ينبغي أن تكون عليه المرأة المسلمة:
1- صرحت
الآيات الكريمة بأنه كان لسبإ-وامرأة رئيسة على البلد-حضارة قوية متكاملة وراقية
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ
جَنَّتَانِ...} فترؤس المرأة لم يجلب للقوم الدمار كما يتصور أصحاب الفهم
الظاهري السطحي لحديث (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) بل
بلغت بهم درجة من التمكين المادي بهرت الملاحظ الأجنبي المتمثل في الهدهد.
2- كان القوم كلهم على الشرك يعبدون الكواكب {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ
اللَّهِ}،لكن المرأة العظيمة سرعان ما تقود قومها إلى الإيمان كما سيأتي،فهي
إذا مفتاح للخير مغلاق للشر حلافا لما تصوره العقائد المتأثرة بالتوراة المحرفة
والإنجيل المزور.
3- إن الملكة المتربعة على تلك الحضارة الرائعة لم تكن
مستبدة مثل الحكام الذين يرفعون الشورى شعارا ولا يعرفون سوى الرأي الأحادي في
الممارسة،لما بلغتها رسالة سليمان –عليه السلام- وفيها دعوة إلى الإسلام وتهديد
لنظام الشرك جمعت أهل الحل والعقد وعرضت عليهم الأمر {قَالَتْ
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا
حَتَّى تَشْهَدُونِ} ويبدو من السياق أن هذا دأبها لا تفصل في القضايا
المصيرية برأيها،وإنما تعمد إلى الأسلوب الشوري أو الديمقراطي،فما أروعه من درس
تعطيه أنثى لأولئك الذكور الذين ينفردون بإصدار القرارات في الأزمات الخطيرة ولسان
حالهم يقول: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}.
4-
رغم أن مجلس الشورى اتخذ موقفا مبدئيا صلبا يعتمد على ما للدولة من قوة عددية
ومادية وعسكرية أوكل استعمالها للملكة {قَالُوا نَحْنُ أُولُو
قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا
تَأْمُرِينَ} فإنها لم يأخذها الغرور وتصرفت بقوة المنطق لا بمنطق القوة
وأرجأت اللجوء إلى الخيار العسكري إلى حين اشتنفاذ خيارات الحكمة والتعقل،في حين
نرى الحكام المتمتعين بشيء من أسباب القوة لا يكادون يفكرون إلا في استعمالها
كإجراء وحيد لمواجهة أي احتمال خطر داخلي أو خارجي ولو كان وهميا،وهذا يدل على
رجاحة عقل الملكة وتوفرها على شروط الرئاسة الحقيقية.
5- نلاحظ في قولها
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ} معرفة بالسنن الاجتماعية وقوانين الغلبة ورد الفعل،فهي تفترض
في سليمان-إن كان على شاكلة الملوك الظلمة وهزم قومها في المواجهة العسكرية-أن يفسد
البلاد واقتصادها وعمرانها ويصب ألوان الظلم والتعسف على المواطنين المهزومين.
6- ولعل أروع ما يتراءى في خصال الملكة ذكاؤها وحنكتها،فبدل أن تسارع إلى
المواجهة اختارت أسلوب الملاينة حتى تتأكد من دعوى سليمان وأنه نبي يدعو إلى دين
التوحيد،فراحت تمتحنه باختبار لا يفوز فيه عامة الحكام:امتحان المال {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}،إنها تعلم أن الناس عامة و الملوك بصفة خاصة يسيل
لعابهم للذهب والفضة ولا يصبرون على فتنتهما،فإذا أقبل سليمان على الهدايا يستزيد
منها علمت أنه مجرد واحد من أولئك الحكام الذين تحدثت عنهم،أما إذا آثر دعوته على
الثروة فيكون شأنه شيئا آخر،ونجح كيدها وخبرت من خلاله حقيقة الرجل وصدقه.
7- وتتجلى رجاحة عقل الملكة مرة ثانية حين تدخل قصر سليمان-عليه
السلام-وترى كرسيا أشبه بكرسيها الملكي الفريد ويسألها مضيفها{أَهَكَذَا عَرْشُكِ}؟ فلم تغامر بالجزم بأنه هو بعينه لأنها
تركته خلفها مسيرة أسابيع،فكيف يمكن أن يسبقها من اليمن إلى فلسطين؟فنراها تخفي
تعجنها-وقد تأكدت في قرارة النفس أن العرش عرشها- في عبارة ذكية فيها تحفظ إيجابي
{قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}،وتلك فطانة تستحق التنويه.
8- وأخيرا فإن هذه المرأة بخصائصها القيادية المتميزة أنقذت نفسها وشعبها
من مهالك الشرك وسارعت إلى إعلان إسلامها بمجرد أن تيقنت بنبوة سليمان {قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ
لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ}،وبما أن وجهاء سبإ وقادة الرأي فيها أظهروا
ثقتهم وولاءهم لها في وقت الخطر الداهم فلا شك أنهم أقرب إلى الاقتناع بدينها
الجديد وأميل إلى الاستماع إلى حجتها والاقتداء بها،وبإسلام الرؤوس يسلم باقي الشعب
أو أغلبيته على الأقل،فهذه الهدية التي لا تقدر بثمن-هدية الإيمان بالله تعالى-
إنما ساقها الله إلى أولئك الناس على يدي امرأة أولا وحاكمة ثانيا.
إن ملكة
سبإ نموذج يجدر بالمسلمات أن يقتدين به،ويحمل بالمسلمين أن يتدبروه،فهو-إلى جانب
نماذج أخرى-حري بأن يصحح المفاهيم المتعلقة بالمرأة ويمكن في النفوس والعقول للتصور
القرآني الإيماني في قضية المرأة،وإن الإمام المودودي رحمه الله لتشبعه بالرؤية
الإسلامية الخالصة ولفقهه العميق قد أفتى بترجيح التصويت على فاطمة جناح ضد الطاغية
المستبد أيوب خان في الانتخابات الرئاسية بباكستان على أساس فقه الموازنات وأن
امرأة عاقلة أفضل من رجل متسلط.
عبد العزيز
كحيل
شعار عاطفي بعيد عن التجسيد،ولعل موضوع المرأة أدل تعبير على هذه الملاحظة،إذ لم
يمنعنا الشعار المرفوع من التشبث بالعادات الأسرية الدخيلة وتحكيم التقاليد
الاجتماعية الخانقة في التعامل مع المرأة المسلمة ونسبة تلك العادات والتقاليد إلى
الدين الحنيف،ولو كان الرجوع إلى القرآن والسنة فعليا وصادقا لأحالنا على أنماط
وأنساق في غاية الرفعة والجمال والتحضر،والمتأمل في قصة سبإ الواردة في سورة
النمل-على سبيل المثال-يقف على عبر ودروس بليغة لم ترد جزافا وإنما هي معالم تربوية
وإيحاءات معبرة تدل على ما ينبغي أن تكون عليه المرأة المسلمة:
1- صرحت
الآيات الكريمة بأنه كان لسبإ-وامرأة رئيسة على البلد-حضارة قوية متكاملة وراقية
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ
جَنَّتَانِ...} فترؤس المرأة لم يجلب للقوم الدمار كما يتصور أصحاب الفهم
الظاهري السطحي لحديث (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) بل
بلغت بهم درجة من التمكين المادي بهرت الملاحظ الأجنبي المتمثل في الهدهد.
2- كان القوم كلهم على الشرك يعبدون الكواكب {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ
اللَّهِ}،لكن المرأة العظيمة سرعان ما تقود قومها إلى الإيمان كما سيأتي،فهي
إذا مفتاح للخير مغلاق للشر حلافا لما تصوره العقائد المتأثرة بالتوراة المحرفة
والإنجيل المزور.
3- إن الملكة المتربعة على تلك الحضارة الرائعة لم تكن
مستبدة مثل الحكام الذين يرفعون الشورى شعارا ولا يعرفون سوى الرأي الأحادي في
الممارسة،لما بلغتها رسالة سليمان –عليه السلام- وفيها دعوة إلى الإسلام وتهديد
لنظام الشرك جمعت أهل الحل والعقد وعرضت عليهم الأمر {قَالَتْ
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا
حَتَّى تَشْهَدُونِ} ويبدو من السياق أن هذا دأبها لا تفصل في القضايا
المصيرية برأيها،وإنما تعمد إلى الأسلوب الشوري أو الديمقراطي،فما أروعه من درس
تعطيه أنثى لأولئك الذكور الذين ينفردون بإصدار القرارات في الأزمات الخطيرة ولسان
حالهم يقول: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}.
4-
رغم أن مجلس الشورى اتخذ موقفا مبدئيا صلبا يعتمد على ما للدولة من قوة عددية
ومادية وعسكرية أوكل استعمالها للملكة {قَالُوا نَحْنُ أُولُو
قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا
تَأْمُرِينَ} فإنها لم يأخذها الغرور وتصرفت بقوة المنطق لا بمنطق القوة
وأرجأت اللجوء إلى الخيار العسكري إلى حين اشتنفاذ خيارات الحكمة والتعقل،في حين
نرى الحكام المتمتعين بشيء من أسباب القوة لا يكادون يفكرون إلا في استعمالها
كإجراء وحيد لمواجهة أي احتمال خطر داخلي أو خارجي ولو كان وهميا،وهذا يدل على
رجاحة عقل الملكة وتوفرها على شروط الرئاسة الحقيقية.
5- نلاحظ في قولها
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ} معرفة بالسنن الاجتماعية وقوانين الغلبة ورد الفعل،فهي تفترض
في سليمان-إن كان على شاكلة الملوك الظلمة وهزم قومها في المواجهة العسكرية-أن يفسد
البلاد واقتصادها وعمرانها ويصب ألوان الظلم والتعسف على المواطنين المهزومين.
6- ولعل أروع ما يتراءى في خصال الملكة ذكاؤها وحنكتها،فبدل أن تسارع إلى
المواجهة اختارت أسلوب الملاينة حتى تتأكد من دعوى سليمان وأنه نبي يدعو إلى دين
التوحيد،فراحت تمتحنه باختبار لا يفوز فيه عامة الحكام:امتحان المال {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}،إنها تعلم أن الناس عامة و الملوك بصفة خاصة يسيل
لعابهم للذهب والفضة ولا يصبرون على فتنتهما،فإذا أقبل سليمان على الهدايا يستزيد
منها علمت أنه مجرد واحد من أولئك الحكام الذين تحدثت عنهم،أما إذا آثر دعوته على
الثروة فيكون شأنه شيئا آخر،ونجح كيدها وخبرت من خلاله حقيقة الرجل وصدقه.
7- وتتجلى رجاحة عقل الملكة مرة ثانية حين تدخل قصر سليمان-عليه
السلام-وترى كرسيا أشبه بكرسيها الملكي الفريد ويسألها مضيفها{أَهَكَذَا عَرْشُكِ}؟ فلم تغامر بالجزم بأنه هو بعينه لأنها
تركته خلفها مسيرة أسابيع،فكيف يمكن أن يسبقها من اليمن إلى فلسطين؟فنراها تخفي
تعجنها-وقد تأكدت في قرارة النفس أن العرش عرشها- في عبارة ذكية فيها تحفظ إيجابي
{قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}،وتلك فطانة تستحق التنويه.
8- وأخيرا فإن هذه المرأة بخصائصها القيادية المتميزة أنقذت نفسها وشعبها
من مهالك الشرك وسارعت إلى إعلان إسلامها بمجرد أن تيقنت بنبوة سليمان {قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ
لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ}،وبما أن وجهاء سبإ وقادة الرأي فيها أظهروا
ثقتهم وولاءهم لها في وقت الخطر الداهم فلا شك أنهم أقرب إلى الاقتناع بدينها
الجديد وأميل إلى الاستماع إلى حجتها والاقتداء بها،وبإسلام الرؤوس يسلم باقي الشعب
أو أغلبيته على الأقل،فهذه الهدية التي لا تقدر بثمن-هدية الإيمان بالله تعالى-
إنما ساقها الله إلى أولئك الناس على يدي امرأة أولا وحاكمة ثانيا.
إن ملكة
سبإ نموذج يجدر بالمسلمات أن يقتدين به،ويحمل بالمسلمين أن يتدبروه،فهو-إلى جانب
نماذج أخرى-حري بأن يصحح المفاهيم المتعلقة بالمرأة ويمكن في النفوس والعقول للتصور
القرآني الإيماني في قضية المرأة،وإن الإمام المودودي رحمه الله لتشبعه بالرؤية
الإسلامية الخالصة ولفقهه العميق قد أفتى بترجيح التصويت على فاطمة جناح ضد الطاغية
المستبد أيوب خان في الانتخابات الرئاسية بباكستان على أساس فقه الموازنات وأن
امرأة عاقلة أفضل من رجل متسلط.
عبد العزيز
كحيل