السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من روائع البيان في نظم القرآن
إعداد:
الأستاذ هشام طلبة -
كاتب إسلامي
تختلف سور القرآن عن كتب التوراة الحالية في أنها لم ترتب مثلها ترتيبًا تاريخيًّا، تبدأ بقصة خلق الكون ثم خلق الإنسان ثم قصص أبناء آدم ثم الأنبياء وهكذا.. على العكس من ذلك ترتب سور القرآن ترتيبًا موضوعيًّا، فالقرآن ليس كتاب تاريخ، فكل سورة إذاً لها موضوعها.
* الترتيب الموضوعي للسور ووحدة السورة القرآنية:
فسورة الفاتحة هي دعاء المسلم الأعظم، وسورة البقرة موضوعها الإيمان والتقوى وأركانها، وسورة آل عمران تكمل موضوع السورة الأخيرة من تضمن قواعد الدين، كذلك تاليتها النساء ( فيما يختص بالنساء ) تعقبها مكملة لها أيضًا سورة المائدة ( فيما يختص بالأطعمة والذبائح )، وسورة الأنعام سورة الجدل مع المشركين، وسورة الأعراف فيها قصة الإنسان منذ خلقه فنزوله الأرض فتعرضه للأنبياء، ثم موته ثم تعرضه لأحداث يوم القيامة، وهكذا، وسورة النحل هي سورة النعمة، وحين تقصر سور القرآن يظل لها موضوع وإن كان صغيرًا فيكون أقرب إلى السمة فمريم سورة الرحمة، والأحزاب هي سورة النبي صلى الله عليه وسلم، وسورة الصافات هي سورة الملائكة، وسورة ص هي سورة الإنابة، وسورة الزمر هي سورة إخلاص العبادة، وسورة غافر هي سورة الدعاء، وفصلت هي سورة القرآن، والشورى هي سورة الوحي والعنكبوت هي سورة الصبر على البلاء، وهكذا..
* تلخيص السورة القرآنية في بعضها:
ومن جميل ما يذكر هنا أن تجد موضوع السورة القرآنية ( خاصةً الطويلة ) ملخصًا في آية أو بضع آيات من آياتها – خاصة في بداياتها أو في أواخرها – فسورة الأنعام تجدها ملخصةً في قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام: 162، 163 ]. إذ أن موضوعها الأصلي هو جدال المشركين، وهي أكثر سورة ذكرت فيها كلمة: { قُلْ } وقد اهتمت بأحكام الذبائح ( النسك )، كما نجد سورة يوسف ملخصة في قوله تعالى: { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ يوسف: 21 ]. إذ خطط إخوة يوسف له خطة للخلاص منه فيجعل الله منها سبب خيرٍ له كما جاء في أواخرها قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ يوسف: 110 ].
كذلك نجد سورة الصافات ملخصةً في آخر ما ذكر منها: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الصافات: 180 – 182 ] , سورة النحل: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [ النحل: 18 ]..
* الاتجاه المعنوي للسورة القرآنية
في هذا المجال أيضًا لا يفوتنا الإشارة إلى الاتجاه المعنوي للسورة القرآنية، فسورة الطلاق مثلًا تشعر وكأن السورة قد دخلت في قلب مشاعر المطلق، وسورة النور تجد لها اتجاهًا معنويًّا هادئًا سلسًا (خاصةً آيات النور ) تخالف مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم الحزينة على حادث الإفك.
أما عرض مشاهد القيامة والدار الآخرة فكأنك ترى رأي العين، حسبنا هنا سورة الأعراف، خاصة في قوله تعالى:{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } [الآية: 47 ] ترى كأنما جاءت قوة خارجية لدفع أصحاب الأعراف إلى النظر إلى أصحاب النار بينما كان نظرهم لأهل الجنة باختيارهم.
* عرض موضوع السورة في بدايتها ونهايتها
من شيم سور القرآن الكريم في موضوعها – خاصةً بعد مقدمة إيمانية إن كانت السورة طويلة – أن تبدأ في عرض الموضوع ثم تبتعد قليلًا بالخوض في المواضيع الإيمانية الأخرى وقبل نهاية السورة تعود لموضوعها مرة أخرى.
* الترتيب المعجز للسور
ترتيب السور خلف بعضها البعض ترتيبٌ معجزٌ، فالسور لم ترتب حسب تاريخ نزول كلٍّ منها، بل هذا ترتيب توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نزلت كل فقرة في مناسبة فيما عُرف بأسباب النزول، ويعجب المتدبر حين يجد كل سورة ترتبط بسابقتها خاصةً في أوائلها، وترتبط كذلك بلاحقتها خاصةً في أواخرها كحلق السلسلة الواحدة.
قد نجد هذه الرابطة مباشرة وواضحة خاصةً في السور القصيرة نسبيًّا وقصار السور، كقوله تعالى في سورة الطور: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } [ الطور: 49 ]، ثم قوله تعالى في أول سورة النجم التي تأتي في الترتيب بعدها مباشرةً: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } [ النجم: 1 ]، فذكر النجم بعد النجوم مناسب تماما. وكذكره تعالى في سورة الفيل: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } [ الفيل: 1 ]، ثم أول لاحقتها سورة قريش: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } [ قريش: 1 ]، أي أنه تعالى فعل ما فعل بأصحاب الفيل ما فعل إلا لإيلاف قريش، فاللام هنا لام العلة.
وقد نجد الرابطة بين السور رابطة موضوعية، خاصةً في السور الطويلة، مثل أواخر الزمر وأوائل لاحقتها غافر في ذكر حملة العرش وأحوال الآخرة، وقد نجد هذه الرابطة في سمات المعاني، مثل أواخر سورة هود: { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...} [ هود: 120 ]، وأوائل لاحقتها يوسف: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ... } [ يوسف: 3 ]، فالقصص المذكورة في آية سورة يوسف هي أنباء الرسل المذكورة في آية سورة هود وكذكر الغفلة في آخر هود ثم في أوائل يوسف ( الآية 3). وكابتداء بعض السور بالحمد بعد نهاية سابقتها بذكر فصل القضاء ( أحداث الآخرة ) كعادة القرآن في ذكر الحمد بعد فصل القضاء، مثل الأنعام بعد المائدة، ومثل فاطر بعد سبأ.
كما نجد سمات هذه الرابطة في سمات الألفاظ:
- مثل قوله تعالى في آخر الفاتحة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.. } [ الفاتحة: 6، 7 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها البقرة: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة: 1، 2 ]. فالهدى هنا معنى مشترك، كأن القرآن يقول لمن يقرأه: إذا أردت الهدى { اهْدِنَا } فاذهب إلى سورة البقرة: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وما بعدها.
- مثل قوله تعالى في آخر الحجر: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر: 99 ].ثم قوله في أول لاحقتها النحل: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل: 1 ].
- مثل قوله تعالى في آخر النحل: { وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل: 127، 128 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الإسراء: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..} [ الإسراء: 1 ]. حيث إن علاج ضيق الصدر دائمًا يكون التسبيح، كما في قوله تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ....} [ الحجر: 97، 98 ].
- مثل قوله تعالى في آخر الإسراء: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا..} [ الإسراء: 111]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الكهف: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ.. } [ الكهف: 1 ]، ثم قوله تعالى: { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } [ الكهف: 4 ]. كأنما الحمد الثاني - في الكهف - استجابة للأمر الأول بالحمد - في الإسراء - ثم نقد فكرة اتخاذ الله للولد في الحالتين ( الإسراء والكهف ).
- ومثل قوله تعالى في آخر طه: { قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا...} [ طه: 35 ].، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الأنبياء: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... } [ الأنبياء: 1 ]، فالتربص يقتضي الاقتراب. وكذكر ألفاظ الإنذار في أواخر فاطر ثم أوائل يس.
- ومثل قوله تعالى في آخر ص: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [ص: 87 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الزمر: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر: 1 ]. فالكلام في الحالتين عن القرآن الكريم.
- ومثل قوله تعالى في آخر القمر: { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [ القمر: 55 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الرحمن: { الرَّحْمَنُ } [ الرحمن: 1 ]. فالرحمن هو هذا المليك المقتدر.
- ومثل قوله تعالى في آخر الواقعة: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة: 96 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الحديد: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحديد: 1 ]. فكأن القرآن يقول: إن لم تسبح أيها الإنسان الضعيف فقد سبح من قبلك ما في السماوات والأرض.
- ومثل قوله تعالى في آخر البينة: { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.. } [ البينة: 8 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الزلزلة: { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة: 1 ]. فكأن مقتضى الكلام: جزاؤهم العظيم هذا ستبدأ إرهاصاته إذا بدأت أحداث القيامة وزلزلت الأرض زلزالها.
- ومثل قوله تعالى في آخر الماعون: { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ الماعون: 7 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الكوثر: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر: 1 ]. فذكر العطاء مناسب جدًّا بعد ذكر المنع.
· كذلك نجد السور المتشابهة في الافتتاحيات ترتب خلف بعضها البعض مثل الحواميم – وهي السور التي تبدأ بقوله: { حم } – وهكذا..(1).
* وإنه لعجيب بعد كل هذا الإعجاز البياني في القرآن في الترتيب أن يقول قائل ( كينيث وود وارد ) في مجلة نيوزويك العدد 87 بتاريخ 12 / 2 / 2002: إن قراءة القرآن كالدخول في جدول ماء، ففي كل آية تقريبًا يمكن للمرء أن يطالعه أمر إلهي، فورة تعبد وصلاة، أو بيان إلهي، أو وصف ليوم القيامة.
أي أنه يقصد أنه ليس هناك أي تناسق بين القرآن الكريم بعضه البعض، والحق أن مبعث اللبس عند هذا الصحفي أن كتابه المقدس عنده قد رُتِّبَ ترتيبًا تاريخيًّا منذ بدء خلق الأرض ثم النبات ثم الشمس !! – كما يقول سفر التكوين في التوراة – ثم آدم ثم أبنائه على الترتيب.
فهو إذًا كتاب تاريخ – والحق أن هذا أيضًا لم يكن دقيقًا ولا علميًّا، فإن أول إنسان على الأرض قطعًا أبعد بكثير من خمسة آلاف عام كما تقول التوراة -.
من روائع البيان في نظم القرآن
إعداد:
الأستاذ هشام طلبة -
كاتب إسلامي
تختلف سور القرآن عن كتب التوراة الحالية في أنها لم ترتب مثلها ترتيبًا تاريخيًّا، تبدأ بقصة خلق الكون ثم خلق الإنسان ثم قصص أبناء آدم ثم الأنبياء وهكذا.. على العكس من ذلك ترتب سور القرآن ترتيبًا موضوعيًّا، فالقرآن ليس كتاب تاريخ، فكل سورة إذاً لها موضوعها.
* الترتيب الموضوعي للسور ووحدة السورة القرآنية:
فسورة الفاتحة هي دعاء المسلم الأعظم، وسورة البقرة موضوعها الإيمان والتقوى وأركانها، وسورة آل عمران تكمل موضوع السورة الأخيرة من تضمن قواعد الدين، كذلك تاليتها النساء ( فيما يختص بالنساء ) تعقبها مكملة لها أيضًا سورة المائدة ( فيما يختص بالأطعمة والذبائح )، وسورة الأنعام سورة الجدل مع المشركين، وسورة الأعراف فيها قصة الإنسان منذ خلقه فنزوله الأرض فتعرضه للأنبياء، ثم موته ثم تعرضه لأحداث يوم القيامة، وهكذا، وسورة النحل هي سورة النعمة، وحين تقصر سور القرآن يظل لها موضوع وإن كان صغيرًا فيكون أقرب إلى السمة فمريم سورة الرحمة، والأحزاب هي سورة النبي صلى الله عليه وسلم، وسورة الصافات هي سورة الملائكة، وسورة ص هي سورة الإنابة، وسورة الزمر هي سورة إخلاص العبادة، وسورة غافر هي سورة الدعاء، وفصلت هي سورة القرآن، والشورى هي سورة الوحي والعنكبوت هي سورة الصبر على البلاء، وهكذا..
* تلخيص السورة القرآنية في بعضها:
ومن جميل ما يذكر هنا أن تجد موضوع السورة القرآنية ( خاصةً الطويلة ) ملخصًا في آية أو بضع آيات من آياتها – خاصة في بداياتها أو في أواخرها – فسورة الأنعام تجدها ملخصةً في قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام: 162، 163 ]. إذ أن موضوعها الأصلي هو جدال المشركين، وهي أكثر سورة ذكرت فيها كلمة: { قُلْ } وقد اهتمت بأحكام الذبائح ( النسك )، كما نجد سورة يوسف ملخصة في قوله تعالى: { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ يوسف: 21 ]. إذ خطط إخوة يوسف له خطة للخلاص منه فيجعل الله منها سبب خيرٍ له كما جاء في أواخرها قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ يوسف: 110 ].
كذلك نجد سورة الصافات ملخصةً في آخر ما ذكر منها: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الصافات: 180 – 182 ] , سورة النحل: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [ النحل: 18 ]..
* الاتجاه المعنوي للسورة القرآنية
في هذا المجال أيضًا لا يفوتنا الإشارة إلى الاتجاه المعنوي للسورة القرآنية، فسورة الطلاق مثلًا تشعر وكأن السورة قد دخلت في قلب مشاعر المطلق، وسورة النور تجد لها اتجاهًا معنويًّا هادئًا سلسًا (خاصةً آيات النور ) تخالف مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم الحزينة على حادث الإفك.
أما عرض مشاهد القيامة والدار الآخرة فكأنك ترى رأي العين، حسبنا هنا سورة الأعراف، خاصة في قوله تعالى:{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } [الآية: 47 ] ترى كأنما جاءت قوة خارجية لدفع أصحاب الأعراف إلى النظر إلى أصحاب النار بينما كان نظرهم لأهل الجنة باختيارهم.
* عرض موضوع السورة في بدايتها ونهايتها
من شيم سور القرآن الكريم في موضوعها – خاصةً بعد مقدمة إيمانية إن كانت السورة طويلة – أن تبدأ في عرض الموضوع ثم تبتعد قليلًا بالخوض في المواضيع الإيمانية الأخرى وقبل نهاية السورة تعود لموضوعها مرة أخرى.
* الترتيب المعجز للسور
ترتيب السور خلف بعضها البعض ترتيبٌ معجزٌ، فالسور لم ترتب حسب تاريخ نزول كلٍّ منها، بل هذا ترتيب توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نزلت كل فقرة في مناسبة فيما عُرف بأسباب النزول، ويعجب المتدبر حين يجد كل سورة ترتبط بسابقتها خاصةً في أوائلها، وترتبط كذلك بلاحقتها خاصةً في أواخرها كحلق السلسلة الواحدة.
قد نجد هذه الرابطة مباشرة وواضحة خاصةً في السور القصيرة نسبيًّا وقصار السور، كقوله تعالى في سورة الطور: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } [ الطور: 49 ]، ثم قوله تعالى في أول سورة النجم التي تأتي في الترتيب بعدها مباشرةً: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } [ النجم: 1 ]، فذكر النجم بعد النجوم مناسب تماما. وكذكره تعالى في سورة الفيل: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } [ الفيل: 1 ]، ثم أول لاحقتها سورة قريش: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } [ قريش: 1 ]، أي أنه تعالى فعل ما فعل بأصحاب الفيل ما فعل إلا لإيلاف قريش، فاللام هنا لام العلة.
وقد نجد الرابطة بين السور رابطة موضوعية، خاصةً في السور الطويلة، مثل أواخر الزمر وأوائل لاحقتها غافر في ذكر حملة العرش وأحوال الآخرة، وقد نجد هذه الرابطة في سمات المعاني، مثل أواخر سورة هود: { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...} [ هود: 120 ]، وأوائل لاحقتها يوسف: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ... } [ يوسف: 3 ]، فالقصص المذكورة في آية سورة يوسف هي أنباء الرسل المذكورة في آية سورة هود وكذكر الغفلة في آخر هود ثم في أوائل يوسف ( الآية 3). وكابتداء بعض السور بالحمد بعد نهاية سابقتها بذكر فصل القضاء ( أحداث الآخرة ) كعادة القرآن في ذكر الحمد بعد فصل القضاء، مثل الأنعام بعد المائدة، ومثل فاطر بعد سبأ.
كما نجد سمات هذه الرابطة في سمات الألفاظ:
- مثل قوله تعالى في آخر الفاتحة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.. } [ الفاتحة: 6، 7 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها البقرة: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة: 1، 2 ]. فالهدى هنا معنى مشترك، كأن القرآن يقول لمن يقرأه: إذا أردت الهدى { اهْدِنَا } فاذهب إلى سورة البقرة: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وما بعدها.
- مثل قوله تعالى في آخر الحجر: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر: 99 ].ثم قوله في أول لاحقتها النحل: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل: 1 ].
- مثل قوله تعالى في آخر النحل: { وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل: 127، 128 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الإسراء: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..} [ الإسراء: 1 ]. حيث إن علاج ضيق الصدر دائمًا يكون التسبيح، كما في قوله تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ....} [ الحجر: 97، 98 ].
- مثل قوله تعالى في آخر الإسراء: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا..} [ الإسراء: 111]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الكهف: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ.. } [ الكهف: 1 ]، ثم قوله تعالى: { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } [ الكهف: 4 ]. كأنما الحمد الثاني - في الكهف - استجابة للأمر الأول بالحمد - في الإسراء - ثم نقد فكرة اتخاذ الله للولد في الحالتين ( الإسراء والكهف ).
- ومثل قوله تعالى في آخر طه: { قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا...} [ طه: 35 ].، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الأنبياء: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... } [ الأنبياء: 1 ]، فالتربص يقتضي الاقتراب. وكذكر ألفاظ الإنذار في أواخر فاطر ثم أوائل يس.
- ومثل قوله تعالى في آخر ص: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [ص: 87 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الزمر: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر: 1 ]. فالكلام في الحالتين عن القرآن الكريم.
- ومثل قوله تعالى في آخر القمر: { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [ القمر: 55 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الرحمن: { الرَّحْمَنُ } [ الرحمن: 1 ]. فالرحمن هو هذا المليك المقتدر.
- ومثل قوله تعالى في آخر الواقعة: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة: 96 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الحديد: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحديد: 1 ]. فكأن القرآن يقول: إن لم تسبح أيها الإنسان الضعيف فقد سبح من قبلك ما في السماوات والأرض.
- ومثل قوله تعالى في آخر البينة: { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.. } [ البينة: 8 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الزلزلة: { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة: 1 ]. فكأن مقتضى الكلام: جزاؤهم العظيم هذا ستبدأ إرهاصاته إذا بدأت أحداث القيامة وزلزلت الأرض زلزالها.
- ومثل قوله تعالى في آخر الماعون: { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ الماعون: 7 ]، ثم قوله تعالى في أول لاحقتها الكوثر: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر: 1 ]. فذكر العطاء مناسب جدًّا بعد ذكر المنع.
· كذلك نجد السور المتشابهة في الافتتاحيات ترتب خلف بعضها البعض مثل الحواميم – وهي السور التي تبدأ بقوله: { حم } – وهكذا..(1).
* وإنه لعجيب بعد كل هذا الإعجاز البياني في القرآن في الترتيب أن يقول قائل ( كينيث وود وارد ) في مجلة نيوزويك العدد 87 بتاريخ 12 / 2 / 2002: إن قراءة القرآن كالدخول في جدول ماء، ففي كل آية تقريبًا يمكن للمرء أن يطالعه أمر إلهي، فورة تعبد وصلاة، أو بيان إلهي، أو وصف ليوم القيامة.
أي أنه يقصد أنه ليس هناك أي تناسق بين القرآن الكريم بعضه البعض، والحق أن مبعث اللبس عند هذا الصحفي أن كتابه المقدس عنده قد رُتِّبَ ترتيبًا تاريخيًّا منذ بدء خلق الأرض ثم النبات ثم الشمس !! – كما يقول سفر التكوين في التوراة – ثم آدم ثم أبنائه على الترتيب.
فهو إذًا كتاب تاريخ – والحق أن هذا أيضًا لم يكن دقيقًا ولا علميًّا، فإن أول إنسان على الأرض قطعًا أبعد بكثير من خمسة آلاف عام كما تقول التوراة -.