السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- الفرق بين الأَبِّ والأَبِ في القرآن
الأّبُّ والأَبُ: كلمتان قرآنيتان متقاربتان في الحروف والاشتقاق، ومتفقتان في الظاهر، ولكنهما ليستا مترادفتين بمعنى واحد، وقد لا يحسن بعض من يتعاملون مع القرآن التفريق بينهما، فيظنون أنهما كلمة واحدة، أو أنهما كلمتان من أصل اشتقاقي واحد، أو أنهما بمعنى واحد. إنهما كلمتان مختلفتان في الاشتقاق، وفي المعنى... ولنتابع الفرق بينهما في اللغة والقرآن.
الأبُّ في القرآن:
الأبُّ: مصدر، مكون من ثلاثة أحرف: "أَبْبٌ". تقول : أَبَّ، يَؤُبُّ، أَبّاً. وهو بمعنى التهيؤ والتجهز والقصد . تقول: أبَّ فلان إلى وطنه. إذا اشتاق إليه، وتجهز للسير إليه.
والأَبُّ: اسم يطلق على المرعى، الذي فيه الزرع والعشب، وسمي بذلك لأنه يكون متهيئاً للرعي والقطع، فتقصده الماشية لترعاه.
ولم يرد من مادة "أَبْبٌ" في القرآن إلا كلمة واحدة، وهي "أَبّ"، ولم ترد هذه الكلمة إلا مرة واحدة، في سورة عبس. قال تعالى: "فلينظر الإنسان إلى طعامه . أنّا صببنا الماء صبّاً . ثم شققنا الأرض شقّاً . فأنبتنا فيها حبّاً . وعنباً وقضباً . وزيتوناً ونخلاً . وحدائق غلباً . وفاكهة وأبّاً . متاعاً لكم ولأنعامكم" (عبس: 24–32).
الاسم "أبٌّ" ورد في سياق امتنان الله على الناس، بما أنعم به عليهم من الزروع والثمار لهم، والعشب والأب لدوابهم. و"أبّاً" في الآية اسم منصوب، لأنه معطوف على أسماء منصوبة قبله: (حبّاً، وعنباً، وقضباً، وزيتوناً، ونخلاً، وحدائق غلباً...)
والأَبُّ في الآية هو العشب النابت في المرعى، الذي تأكله الماشية، وهذا العشب أَبٌّ، لأنه يكون جاهزاً للرعي، صالحاً للقطع والأكل، تقصده الدواب والمواشي لترعاه! ومن المناسب أن نتذكر في هذا المقام توقف عمر رضي الله عنه في "الأَبِّ"؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قرأ عمر بن الخطاب سورة عبس، فلما أتى على هذه الآية: "وفاكهة وأبّاً" قال: قد عرفنا الفاكهة فما الأَبُّ ؟ ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف!
إن عمر رضي الله عنه يعرف أن "الأَبَّ" نبات من نبات الأرض، ولكنه أراد أن يحدد نوع ذلك النبات واسمه! ولكنه توقف عن ذلك، واعتبره من باب التكلف! واللطيف أن القرآن ذكر نوعين لصنفين، فقال: "وفاكهة وأبّاً . متاعاً لكم ولأنعامكم". الفاكهة متاعٌ للناس، والأَبُّ متاع لأنعامهم!
الأَبُ في القرآن:
الأَبُ -بالتخفيف- اسم، مشتق من "أَبْوٌ". و"الأَبْوُ" مصدر، تقول: أبا، يأْبو، أبْواً. وهذا المصدر بمعنى التربية والغذو. وسمي الوالد أباً لأنه يربي ابنه ويغذوه، ويقدم له الطعام والشراب، كما أنه يربيه ويغرس فيه الفضائل والأخلاق.
وأَبْوٌ: على وزن "فَعْلٌ"، فالأَبُ اسم حذفت لام الكلمة -التي هي الواو- للتخفيف. فهو على وزن "فَعٌ". مثل حذف واو "أَخْوٌ" و"دَمْوٌ" فصارتا: أَخٌ ودَمٌ. ومثل حذف ياء يَدْيٌ، فصارت: يَدٌ... فالباء في "أَبٌ" مخففة، وليست مشددة. ولابد أن نفرق بين "الأَبِّ" بالتشديد، الذي سبق أن تحدثنا عنه، وهو العشب الذي ترعاه الماشية، و"الأَبِ" بالتخفيف، الذي هو الوالد.
والواو في "أَبوهُ" ليست لام الكلمة، وإنما هي حرف إعراب، لأن "أَبٌ" من الأسماء الخمسة، التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجرّ بالياء. وقد ورد "الأب" في القرآن مفرداً ومثنى وجمعاً، وكان في ذلك إمّا مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً.
ومن اللطيف الإشارة إلى أن "أَبٌ" ورد مفرداً ستّاً وأربعين مرة في القرآن، كان فيها مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، وكان في هذه المرات مضافاً لما بعده، ولم يرد بدون إضافة إلا مرة واحدة، وذلك في قوله تعالى: "قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه..." (يوسف:78).
وأطلق "الأب" في معظم الآيات على الوالد المباشر، كما في قوله تعالى: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" (الأحزاب:40)، والآية في سياق إبطال التبني، لأن رسول الله كان قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه قبل البعثة، حتى كان يسمى زيد بن محمد، فلما أبطل الله التبني أمر الله نبيهصلى الله عليه وسلم أن يتزوج مطلقة زيد، ولما تكلم المنافقون عليه، وقالوا: تزوج زوجة ابنه، نفى الله أن يكون أباه، لأنه لم ينجبه: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم "!
وأطلق "الأب" المفرد في القرآن على الأبوة البعيدة، وهي الأبوة الاعتبارية القائمة الصلة المعنوية، وليست الأبوة النسبية. وذلك في قول الله عز وجل: "ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين" (الحج:78).
واللطيف أن القرآن نفى أبوة الرسول صلى الله عليه وسلم النسبية للمسلمين، بينما أثبت الأبوة الاعتبارية من قبل إبراهيم عليه السلام للمسلمين؛ فإبراهيم عليه السلام الذي تفصله عن المسلمين قرون عديدة أبوهم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي يعيش معهم ليس أباً لهم!
ومن لطائف التعبير القرآني قوله تعالى: "تبت يدا أبي لهب" (المسد:1) وهو يتحدث عن عم النبي صلى الله عليه وسلم "عبدالعزى بن عبدالمطلب" ولم يكن له ولد يسمى "لهب"، وكنيته الحقيقية: "أبوعتبة". ومع ذلك كنّاه الله بأبي لهب. والأب هنا بمعنى الصاحب، وليس بمعنى الوالد، فهو أبولهب بمعنى أنه صاحب اللهب، وهذه الصحبة فيها معنى الملازمة والمداومة. ويتناسق قوله : "تبت يدا أبي لهب" مع قوله بعدها : "سيصلى ناراً ذات لهب". فأبولهب في الدنيا سيصلى ناراً ذات لهب في الآخرة، وسيخلد فيها معذباً بلهبها!
2- الفرق بين الأب والوالد في القرآن
قد يظن بعضهم أن الأب والوالد كلمتان مترادفتان في القرآن، لا فرق بينهما، لأنهما تطلقان على الشخص الذي أنجب الإنسان، وهذا كلام مردود؛ لأنه لا يتفق مع الدقة القرآنية الملحوظة، التي تلاحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات المتقاربة! إن بين الكلمتين "أب" و"والد" فروقاً في الاشتقاق، وفي المعنى، وفي الاستعمال القرآني، مع أنهما تتفقان في معظم المعنى، وتلتقيان في أنهما تطلقان على الشخص الذي أنجب الإنسان.
الأَبُ: اسم يطلق على الوالد، لكنه في الأصل مصدر محذوف حرفه الأخير، وهو على وزن "فع"، وأصله "أبو". وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك.
أما "والد" فهو اسم على وزن "فاعل". وهو مشتق من الجذر "وَلْدٌ"، والوَلْدُ والتولد فيه معنى حصول الشيء من الشيء، وتفرعه وانفصاله عنه.
إذن هناك فرق بين الأب والوالد في الاشتقاق، فالأب مشتق من الجذر الثلاثي: "أَبْوٌ"، والوالد مشتق من الجذر الثلاثي: "وَلْدٌ".
وهناك فرق بين الأب والوالد، من حيث المعنى الأساسي للجذرين، لأن الأبو فيه معنى الغذو، والولد فيه معنى الانفصال.
فالأب والوالد يطلقان على الرجل الذي أنجب الإنسان، لكنه يطلق عليه "أب" عند إرادة معنى التربية والتغذية والعناية والرعاية والاهتمام، ويطلق عليه "والد" عند إرادة معنى التفرع والتناسل وانفصال الفرع عن الأصل.
وعند النظر في ورود الكلمتين المتقاربتين في القرآن، فيمكننا ملاحظة ما يلي:
أ-استخدم القرآن كلمة "الأب" بمعنى "الوالد"، في آيات عديدة، منها قوله تعالى: "إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" (يوسف:4).
ب- أطلق القرآن الأب على الجد القريب أو الجد البعيد، كما في قوله تعالى: "ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين.." (الحج: 78). أما الوالد فإنه لا يطلق إلا على الأب الحقيقي الذي أنجب الإنسان؛ فلا يطلق على العم والجد.
ج- ورد الأب في القرآن مفرداً ومثنى وجمعاً، أما الوالد فإنه ورد مفرداً ومثنى فقط، ولم يرد جمعاً. من وروده مفرداً قوله تعالى: "ووالد وما ولد" (البلد:3). ومن وروده مثنى قوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" (النساء:7)، وهو لم يرد جمع مذكر "الوالدون" ، لأنه ليس للإنسان إلا والد واحد، أو والدان اثنان هما الأب والأم أو الوالد والوالدة.
د- في الكلام على النسب يستخدم القرآن كلمة الأب أو الآباء، كما في قوله تعالى: "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم" (الأحزاب : 5).
هـ- في الوصية والبر والإحسان يستخدم القرآن كلمة "الوالدين" لأن الوالد يدل على قوة الصلة المباشرة بين الوالد والولد، ويذكر الولد بأصله الذي تفرع عنه، ويرشده إلى أهمية التواصل بين الأصل والفرع. قال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً" (الإسراء: 23).
و- اللطيف أن القرآن يساوي بين الأب والوالد في الكلام على الأمور المالية كالميراث والوصية، لأن الحقوق المالية تشمل كلاًّ من الأب والوالد! أورد "الوالدين" في قوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" (النساء:7). وأورد "الأبوين" في قوله تعالى: "ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث" (النساء:11).
والخلاصة: الأب والوالد كلمتان قرآنيتان، ليستا مترادفتين بمعنى واحد، لأنه لا ترادف في القرآن، وإنما هما متقاربتان، تتفقان في معظم المعنى، ولكنهما تفترقان في جزء من المعنى والدلالة.
فالأب يذكر ويراد به التربية والرعاية والتوجيه والإرشاد، فالأب هو المربي، الذي يغذو أولاده، ويقدم لهم الغذاء المادي الضروري لأبدانهم، والغذاء الروحي الضروري لأرواحهم وقلوبهم.
أما الوالد فإنه يذكر ويراد به التوالد والتناسل وانفصال الولد عن الوالد، وتفرعه عنه، فالوالد يتعلق بالجانب المادي من حياة الأبناء، أما الأب فإنه يشمل الجانب المادي القائم على الغذو والإطعام، والجانب المعنوي القائم على التربية والتوجيه.
وعندما ننظر في واقع الناس، فإننا نرى معظم الرجال مجرد "والدين"، تنتهي مهمة الواحد منهم بمعاشرته لامرأته، وكأنها مجرد مهمة "بيولوجية" جنسية، لا يطلب منه إلا إخصاب "البويضة" في رحم امرأته، وبعد ذلك تنجب له ولده، الذي ينتسب لوالده برابطة التوالد والنسب! وقليل من الوالدين من هو " أب"، يقوم بواجبه الأبوي نحو أبنائه، ويحرص على أن يغذوهم بالأخلاق والآداب والفضائل، كما يغذوهم بالطعام والشراب. وهذا معناه أن كل أب والد، لأنه ينجب أولاده، لكن ليس كل والد أباً، فالأبوة شرف كبير، لا يناله الوالدون الذين يكتفون بوظيفتهم البيولوجية!
الأبوان والوالدان في القرآن:
ذكر القرآن "الأبوين" مثنى "الأب". والأبوان هما الأب والأم، وهذا من باب "التغليب"، حيث غلب المذكر "الأب" على المؤنث "الأم".
ومن إطلاق "الأبوين" على الأب والأم في القرآن قوله تعالى: "ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث" (النساء:11).
وأطلق "الأبوان" على الجد وأبي الجد، وذلك في قوله تعالى الذي أخبرنا عن ما قاله يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق" (يوسف:6). إسحاق جد يوسف، وإبراهيم والد إسحاق، ومع ذلك اعتبرهما يعقوب أبوين لأبنه يوسف عليهم السلام.
ومن لطائف سورة يوسف أنها ذكرت المثنى "أبوان" بمعنيين:
الأول: الأبوان الحقيقيان، الأب والأم. وذلك في قوله تعالى: (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" (يوسف:99) وأبواه هما أبوه وأمه.
الثاني: الجد وأبو الجد، وذلك في قوله تعالى: "ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق" (يوسف:6).
وأطلق الأبوان على أول زوجين من البشر، وهما آدم وحواء. قال تعالى: "يا بني آدم لا يفتننّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " (الأعراف: 27). وهذه أبوة قديمة تمتد إلى آلاف السنين.
أما "الوالدان" فلم يطلقا في القرآن إلا على الأب والأم، وذلك من باب تغليب الأب على الأم. وجاءت الكلمة مرفوعة في قوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" (النساء:7). وجاءت مجرورة في قوله تعالى : " أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير " (لقمان:14).
ومن لطائف التعبير القرآني تفريقه بين النبيين يحيى وعيسى عليهما السلام، في إخباره عن برهما وحسن خلقهما. لمّا تحدث عن برّ يحيى عليه السلام وحسن خلقه قال تعالى: "وبرّاً بوالديه ولم يكن جباراً عصيّاً" (مريم:14). ولما تحدث عن برّ عيسى عليه السلام وحسن خلقه قال تعالى: "وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيّاً" (مريم:32). عبّر عن والدَيْ يحيى عليه السلام بالمثنى لأن له أباً وأمّاً. بينما عبّر عن والدة عيسى عليه السلام فقط، لأنه ليس له أب ولا والد، وإنما له والدة فقط!
وهذا يدل على أن القرآن ينتقي ألفاظه وكلماته، ويختارها بعناية دقيقة، ولكل كلمة دلالتها الخاصة بها، بحيث لا تغني كلمة عن كلمة. وهذه الفروق الدقيقة بين الكلمات المتقاربة تؤكد الحقيقة التي نوقن بها، من أنه لا ترادف بين كلمات القرآن، وإنما هناك تقارب في دلالتها على معانيها!
( د. صلاح عبدالفتاح الخالدي )
- الفرق بين الأَبِّ والأَبِ في القرآن
الأّبُّ والأَبُ: كلمتان قرآنيتان متقاربتان في الحروف والاشتقاق، ومتفقتان في الظاهر، ولكنهما ليستا مترادفتين بمعنى واحد، وقد لا يحسن بعض من يتعاملون مع القرآن التفريق بينهما، فيظنون أنهما كلمة واحدة، أو أنهما كلمتان من أصل اشتقاقي واحد، أو أنهما بمعنى واحد. إنهما كلمتان مختلفتان في الاشتقاق، وفي المعنى... ولنتابع الفرق بينهما في اللغة والقرآن.
الأبُّ في القرآن:
الأبُّ: مصدر، مكون من ثلاثة أحرف: "أَبْبٌ". تقول : أَبَّ، يَؤُبُّ، أَبّاً. وهو بمعنى التهيؤ والتجهز والقصد . تقول: أبَّ فلان إلى وطنه. إذا اشتاق إليه، وتجهز للسير إليه.
والأَبُّ: اسم يطلق على المرعى، الذي فيه الزرع والعشب، وسمي بذلك لأنه يكون متهيئاً للرعي والقطع، فتقصده الماشية لترعاه.
ولم يرد من مادة "أَبْبٌ" في القرآن إلا كلمة واحدة، وهي "أَبّ"، ولم ترد هذه الكلمة إلا مرة واحدة، في سورة عبس. قال تعالى: "فلينظر الإنسان إلى طعامه . أنّا صببنا الماء صبّاً . ثم شققنا الأرض شقّاً . فأنبتنا فيها حبّاً . وعنباً وقضباً . وزيتوناً ونخلاً . وحدائق غلباً . وفاكهة وأبّاً . متاعاً لكم ولأنعامكم" (عبس: 24–32).
الاسم "أبٌّ" ورد في سياق امتنان الله على الناس، بما أنعم به عليهم من الزروع والثمار لهم، والعشب والأب لدوابهم. و"أبّاً" في الآية اسم منصوب، لأنه معطوف على أسماء منصوبة قبله: (حبّاً، وعنباً، وقضباً، وزيتوناً، ونخلاً، وحدائق غلباً...)
والأَبُّ في الآية هو العشب النابت في المرعى، الذي تأكله الماشية، وهذا العشب أَبٌّ، لأنه يكون جاهزاً للرعي، صالحاً للقطع والأكل، تقصده الدواب والمواشي لترعاه! ومن المناسب أن نتذكر في هذا المقام توقف عمر رضي الله عنه في "الأَبِّ"؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قرأ عمر بن الخطاب سورة عبس، فلما أتى على هذه الآية: "وفاكهة وأبّاً" قال: قد عرفنا الفاكهة فما الأَبُّ ؟ ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف!
إن عمر رضي الله عنه يعرف أن "الأَبَّ" نبات من نبات الأرض، ولكنه أراد أن يحدد نوع ذلك النبات واسمه! ولكنه توقف عن ذلك، واعتبره من باب التكلف! واللطيف أن القرآن ذكر نوعين لصنفين، فقال: "وفاكهة وأبّاً . متاعاً لكم ولأنعامكم". الفاكهة متاعٌ للناس، والأَبُّ متاع لأنعامهم!
الأَبُ في القرآن:
الأَبُ -بالتخفيف- اسم، مشتق من "أَبْوٌ". و"الأَبْوُ" مصدر، تقول: أبا، يأْبو، أبْواً. وهذا المصدر بمعنى التربية والغذو. وسمي الوالد أباً لأنه يربي ابنه ويغذوه، ويقدم له الطعام والشراب، كما أنه يربيه ويغرس فيه الفضائل والأخلاق.
وأَبْوٌ: على وزن "فَعْلٌ"، فالأَبُ اسم حذفت لام الكلمة -التي هي الواو- للتخفيف. فهو على وزن "فَعٌ". مثل حذف واو "أَخْوٌ" و"دَمْوٌ" فصارتا: أَخٌ ودَمٌ. ومثل حذف ياء يَدْيٌ، فصارت: يَدٌ... فالباء في "أَبٌ" مخففة، وليست مشددة. ولابد أن نفرق بين "الأَبِّ" بالتشديد، الذي سبق أن تحدثنا عنه، وهو العشب الذي ترعاه الماشية، و"الأَبِ" بالتخفيف، الذي هو الوالد.
والواو في "أَبوهُ" ليست لام الكلمة، وإنما هي حرف إعراب، لأن "أَبٌ" من الأسماء الخمسة، التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجرّ بالياء. وقد ورد "الأب" في القرآن مفرداً ومثنى وجمعاً، وكان في ذلك إمّا مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً.
ومن اللطيف الإشارة إلى أن "أَبٌ" ورد مفرداً ستّاً وأربعين مرة في القرآن، كان فيها مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، وكان في هذه المرات مضافاً لما بعده، ولم يرد بدون إضافة إلا مرة واحدة، وذلك في قوله تعالى: "قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه..." (يوسف:78).
وأطلق "الأب" في معظم الآيات على الوالد المباشر، كما في قوله تعالى: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" (الأحزاب:40)، والآية في سياق إبطال التبني، لأن رسول الله كان قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه قبل البعثة، حتى كان يسمى زيد بن محمد، فلما أبطل الله التبني أمر الله نبيهصلى الله عليه وسلم أن يتزوج مطلقة زيد، ولما تكلم المنافقون عليه، وقالوا: تزوج زوجة ابنه، نفى الله أن يكون أباه، لأنه لم ينجبه: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم "!
وأطلق "الأب" المفرد في القرآن على الأبوة البعيدة، وهي الأبوة الاعتبارية القائمة الصلة المعنوية، وليست الأبوة النسبية. وذلك في قول الله عز وجل: "ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين" (الحج:78).
واللطيف أن القرآن نفى أبوة الرسول صلى الله عليه وسلم النسبية للمسلمين، بينما أثبت الأبوة الاعتبارية من قبل إبراهيم عليه السلام للمسلمين؛ فإبراهيم عليه السلام الذي تفصله عن المسلمين قرون عديدة أبوهم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي يعيش معهم ليس أباً لهم!
ومن لطائف التعبير القرآني قوله تعالى: "تبت يدا أبي لهب" (المسد:1) وهو يتحدث عن عم النبي صلى الله عليه وسلم "عبدالعزى بن عبدالمطلب" ولم يكن له ولد يسمى "لهب"، وكنيته الحقيقية: "أبوعتبة". ومع ذلك كنّاه الله بأبي لهب. والأب هنا بمعنى الصاحب، وليس بمعنى الوالد، فهو أبولهب بمعنى أنه صاحب اللهب، وهذه الصحبة فيها معنى الملازمة والمداومة. ويتناسق قوله : "تبت يدا أبي لهب" مع قوله بعدها : "سيصلى ناراً ذات لهب". فأبولهب في الدنيا سيصلى ناراً ذات لهب في الآخرة، وسيخلد فيها معذباً بلهبها!
2- الفرق بين الأب والوالد في القرآن
قد يظن بعضهم أن الأب والوالد كلمتان مترادفتان في القرآن، لا فرق بينهما، لأنهما تطلقان على الشخص الذي أنجب الإنسان، وهذا كلام مردود؛ لأنه لا يتفق مع الدقة القرآنية الملحوظة، التي تلاحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات المتقاربة! إن بين الكلمتين "أب" و"والد" فروقاً في الاشتقاق، وفي المعنى، وفي الاستعمال القرآني، مع أنهما تتفقان في معظم المعنى، وتلتقيان في أنهما تطلقان على الشخص الذي أنجب الإنسان.
الأَبُ: اسم يطلق على الوالد، لكنه في الأصل مصدر محذوف حرفه الأخير، وهو على وزن "فع"، وأصله "أبو". وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك.
أما "والد" فهو اسم على وزن "فاعل". وهو مشتق من الجذر "وَلْدٌ"، والوَلْدُ والتولد فيه معنى حصول الشيء من الشيء، وتفرعه وانفصاله عنه.
إذن هناك فرق بين الأب والوالد في الاشتقاق، فالأب مشتق من الجذر الثلاثي: "أَبْوٌ"، والوالد مشتق من الجذر الثلاثي: "وَلْدٌ".
وهناك فرق بين الأب والوالد، من حيث المعنى الأساسي للجذرين، لأن الأبو فيه معنى الغذو، والولد فيه معنى الانفصال.
فالأب والوالد يطلقان على الرجل الذي أنجب الإنسان، لكنه يطلق عليه "أب" عند إرادة معنى التربية والتغذية والعناية والرعاية والاهتمام، ويطلق عليه "والد" عند إرادة معنى التفرع والتناسل وانفصال الفرع عن الأصل.
وعند النظر في ورود الكلمتين المتقاربتين في القرآن، فيمكننا ملاحظة ما يلي:
أ-استخدم القرآن كلمة "الأب" بمعنى "الوالد"، في آيات عديدة، منها قوله تعالى: "إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" (يوسف:4).
ب- أطلق القرآن الأب على الجد القريب أو الجد البعيد، كما في قوله تعالى: "ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين.." (الحج: 78). أما الوالد فإنه لا يطلق إلا على الأب الحقيقي الذي أنجب الإنسان؛ فلا يطلق على العم والجد.
ج- ورد الأب في القرآن مفرداً ومثنى وجمعاً، أما الوالد فإنه ورد مفرداً ومثنى فقط، ولم يرد جمعاً. من وروده مفرداً قوله تعالى: "ووالد وما ولد" (البلد:3). ومن وروده مثنى قوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" (النساء:7)، وهو لم يرد جمع مذكر "الوالدون" ، لأنه ليس للإنسان إلا والد واحد، أو والدان اثنان هما الأب والأم أو الوالد والوالدة.
د- في الكلام على النسب يستخدم القرآن كلمة الأب أو الآباء، كما في قوله تعالى: "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم" (الأحزاب : 5).
هـ- في الوصية والبر والإحسان يستخدم القرآن كلمة "الوالدين" لأن الوالد يدل على قوة الصلة المباشرة بين الوالد والولد، ويذكر الولد بأصله الذي تفرع عنه، ويرشده إلى أهمية التواصل بين الأصل والفرع. قال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً" (الإسراء: 23).
و- اللطيف أن القرآن يساوي بين الأب والوالد في الكلام على الأمور المالية كالميراث والوصية، لأن الحقوق المالية تشمل كلاًّ من الأب والوالد! أورد "الوالدين" في قوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" (النساء:7). وأورد "الأبوين" في قوله تعالى: "ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث" (النساء:11).
والخلاصة: الأب والوالد كلمتان قرآنيتان، ليستا مترادفتين بمعنى واحد، لأنه لا ترادف في القرآن، وإنما هما متقاربتان، تتفقان في معظم المعنى، ولكنهما تفترقان في جزء من المعنى والدلالة.
فالأب يذكر ويراد به التربية والرعاية والتوجيه والإرشاد، فالأب هو المربي، الذي يغذو أولاده، ويقدم لهم الغذاء المادي الضروري لأبدانهم، والغذاء الروحي الضروري لأرواحهم وقلوبهم.
أما الوالد فإنه يذكر ويراد به التوالد والتناسل وانفصال الولد عن الوالد، وتفرعه عنه، فالوالد يتعلق بالجانب المادي من حياة الأبناء، أما الأب فإنه يشمل الجانب المادي القائم على الغذو والإطعام، والجانب المعنوي القائم على التربية والتوجيه.
وعندما ننظر في واقع الناس، فإننا نرى معظم الرجال مجرد "والدين"، تنتهي مهمة الواحد منهم بمعاشرته لامرأته، وكأنها مجرد مهمة "بيولوجية" جنسية، لا يطلب منه إلا إخصاب "البويضة" في رحم امرأته، وبعد ذلك تنجب له ولده، الذي ينتسب لوالده برابطة التوالد والنسب! وقليل من الوالدين من هو " أب"، يقوم بواجبه الأبوي نحو أبنائه، ويحرص على أن يغذوهم بالأخلاق والآداب والفضائل، كما يغذوهم بالطعام والشراب. وهذا معناه أن كل أب والد، لأنه ينجب أولاده، لكن ليس كل والد أباً، فالأبوة شرف كبير، لا يناله الوالدون الذين يكتفون بوظيفتهم البيولوجية!
الأبوان والوالدان في القرآن:
ذكر القرآن "الأبوين" مثنى "الأب". والأبوان هما الأب والأم، وهذا من باب "التغليب"، حيث غلب المذكر "الأب" على المؤنث "الأم".
ومن إطلاق "الأبوين" على الأب والأم في القرآن قوله تعالى: "ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث" (النساء:11).
وأطلق "الأبوان" على الجد وأبي الجد، وذلك في قوله تعالى الذي أخبرنا عن ما قاله يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق" (يوسف:6). إسحاق جد يوسف، وإبراهيم والد إسحاق، ومع ذلك اعتبرهما يعقوب أبوين لأبنه يوسف عليهم السلام.
ومن لطائف سورة يوسف أنها ذكرت المثنى "أبوان" بمعنيين:
الأول: الأبوان الحقيقيان، الأب والأم. وذلك في قوله تعالى: (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" (يوسف:99) وأبواه هما أبوه وأمه.
الثاني: الجد وأبو الجد، وذلك في قوله تعالى: "ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق" (يوسف:6).
وأطلق الأبوان على أول زوجين من البشر، وهما آدم وحواء. قال تعالى: "يا بني آدم لا يفتننّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " (الأعراف: 27). وهذه أبوة قديمة تمتد إلى آلاف السنين.
أما "الوالدان" فلم يطلقا في القرآن إلا على الأب والأم، وذلك من باب تغليب الأب على الأم. وجاءت الكلمة مرفوعة في قوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" (النساء:7). وجاءت مجرورة في قوله تعالى : " أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير " (لقمان:14).
ومن لطائف التعبير القرآني تفريقه بين النبيين يحيى وعيسى عليهما السلام، في إخباره عن برهما وحسن خلقهما. لمّا تحدث عن برّ يحيى عليه السلام وحسن خلقه قال تعالى: "وبرّاً بوالديه ولم يكن جباراً عصيّاً" (مريم:14). ولما تحدث عن برّ عيسى عليه السلام وحسن خلقه قال تعالى: "وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيّاً" (مريم:32). عبّر عن والدَيْ يحيى عليه السلام بالمثنى لأن له أباً وأمّاً. بينما عبّر عن والدة عيسى عليه السلام فقط، لأنه ليس له أب ولا والد، وإنما له والدة فقط!
وهذا يدل على أن القرآن ينتقي ألفاظه وكلماته، ويختارها بعناية دقيقة، ولكل كلمة دلالتها الخاصة بها، بحيث لا تغني كلمة عن كلمة. وهذه الفروق الدقيقة بين الكلمات المتقاربة تؤكد الحقيقة التي نوقن بها، من أنه لا ترادف بين كلمات القرآن، وإنما هناك تقارب في دلالتها على معانيها!
( د. صلاح عبدالفتاح الخالدي )