بسم الله الرحمن الرحيم
أثار المعاصي...بقلم أبن القيم الجوزية
للمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا،
والآخرة ما لا يعلمه إلا الله .
فمنها حرمان العلم، فان العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور .
ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد
ذكائه، وكما فهمه، فقال أنى أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية .
ومن آثار المعاصي حرمان الرزق، وفي المسند أن العبد ليحرم الرزق بالذنب الذي يصيبه .
وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق فترك التقوى مجلبة للفقر، فما استجلب رزق الله بمثل ترك
المعاصي ، ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلآً،
ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة ، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه
حياة، وما لجرح بميت إيلام، فلو لم تترك الذنوب إلا حذرا من وقوع تلك الوحشة لكان العاقل
حريا بتركها .
وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه، فقال له إذا كنت قد أوحشتك الذنوب
فدعها إذا شئت واستأنس، وليس على القلب أمر من وحشة الذنب على الذنب، فالله المستعان .
ومنها الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس . لا سيما أهل الخير منهم فإنه يجد وحشة بينه
وبينهم ، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم، ومن مجالستهم، وحرم بركة الانتفاع بهم، وقرب
من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه
وبين امرأته ،وولده،وأقاربه، وبينه وبين نفسه ، فتراه مستوحشاً من نفسه .
وقال بعض السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي . ومنها من تعسير أموره
عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه، أو متعسراً عليه. وكما أن من اتقي الله يجعل له من
أمره يسراً، فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسراً، يالله العجب كيف يجد العبد أبواب
الخير، والمصالح مسدودة عنه، ومتعسرة علية وهو لا يعلم من أين أتى .
ومنها ظلمة يجدها في قلبه حقيقة، يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم، فتصير ظلمة
المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره . فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة
ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات، والأمور المهلكة ، وهو لا يشعر كأعمى خرج
في ظلمة الليل يمشي وحده. وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه
وتصير سوادا في الوجه حتى يراه كل أحد .
قال عبد الله بن عباس إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب ، وسعة في الرزق، وقوة
في البدن ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القبر والقلب، ووهناً
في البدن ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق .
ومنها أن المعاصي توهن القلب والبدن، أما وهنها للقلب فأمر ظاهر، بل لا يزال توهنه حتى
تزيل حياته بالكلية، وأما وهنها للبدن فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوى قلبه قوى بدنه، وأما
الفاجر فانه وإن كان قوى البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته عند أحوج ما يكون
إلي نفسه، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم عند أحوج ما كانوا إليها وقهرهم أهل
الايمان، بقوة أبدانهم وقلوبهم .
ومنها أن المعاصي تقصر العمر، وتمحق بركته ولابد . فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور
ينقصه، وقد اختلف الناس في هذا الموضع، فقالت طائفة نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة
عمره، ومحقها عليه، وهذا حق وهو بعض تأثير المعاصي . وقالت طائفة بل تنقصه حقيقة كما
تنقص الرزق، فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسباباً كثيرة تكثره وتزيده، وللبركة في العمر
بأسباب تكثره وتزيده، وقالوا ولا تمنع زيادة العمر بأسباب كما ينقص بأسباب.
فالأرزاق، والآجال، والسعادة، والشقاوة، والصحة، والمرض، والغنى، والفقر، وإن كانت
بقضاء الله -عز وجل- فهو يقضي ما يشاء بأسباب جعلها موجبة لمسبباتها مقتضية لها .
الحياة في الحقيقة حياة القلب، وعمر الإنسان مدة حياته ، فليس عمره إلا أوقات حياته بالله، فتلك
ساعات عمره، فالبر، والتقوى، والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر
له سواها، وبالجملة فالعبد إذا اعرض عن الله ، واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته ا
لحقيقية التي يجد غب إضاعتها يوم يقول يا ليتني قدمت لحياتي ، فلا يخلو إما أن يكون له مع
ذلك تطلع إلى المصالحة الدنيوية والأخروية أولا .
فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك فقد ضاع عليه عمره كله، وذهبت حياته باطلاً، وإن كان له تطلع
إلى ذلك طالت عليه الطريق بسبب العوائق، وتعسرت عليه أسباب الخير بحسب اشتغاله
بأضدادها ، وذلك نقصان حقيقي من عمره، وسر المسألة أن عمر الإنسان مدة حياته، ولا حياة
له إلا بإقباله على ربه، والتنعم بحبه، وذكره، وإيثار مرضاته.